كنت أحضّر ردا على مداخلات الأستاذ برجيس التي تناول فيها أجزاءا من مداخلتي ، و كنت أخطّط للرّد على الأستاذ حكمت المومني و الذي لم أعد أدر ماذا يريد ؟؟ فهو في الغرب مرّة و في الشرق مرة ... ، لكنّ عندما رأيت مداخلة الدكتورة رزان محمد ، فضلت أن أوجّه كلامي ليس لحضرتها فحسب ، بل لكلّ الذين يعتقدون ما تعتقد ، و لكلّ الذين نسوا مواقعهم بالأمس القريب ، فهم تعوّدوا على ضرب أعناقنا بسيف أنظمتم (حين كانت أنظمتهم واقفة) و الآن يريدون أن يضربوا أعناقنا باسم الثورة !!! لهؤلاء بالذات أقول ، قبل أن ينبلج الخيط الأسود من الخيط الأبيض ، فيما يتعلّق بالثورة المصرية ، كنّا نقرأ كمن يقرأ من كتاب مفتوح ، و كلّ ما قلناه بالحرف و بالحدث حصل و وقع ، و روّاد الغرفة الصوتية يشهدون ، كنّا نقول الكلمة بينما الآخرون كانوا يرتجفون خوفا ، و يصابون بالصداع ، يخرجون مهرولين هاربين ، و منهم من شتمنا شتما مباشرا و صريحا دفاعا عن أنظمتهم ، بالتالي ليس هنا مجال للعواطف و لا للنّحيب و لا للمسايرة و لا للسطحية و لا لموقف على "الماشي" ، لم نفعل و لن نفعل ، و لن نقول إلا ما نراه ، لا ما نريده ، ما نؤمن به ايمانا راسخا بأنه الصّواب ، لا بما قيل لنا أنه صواب ، و إذا لم نختبره بالتّحليل و بالاستقراء و بالاستنباط ، كلّيا ثم جزئيا ، لن نردّد من وراء أحد عبارة واحدة ، إلا إذا وقعت في النفس موقعها و وضعت في إطارها الموضوعي.

الآن سأبدأ من هنا ، و سأعتبر كلّ ما قيل و كأنّه لم يُقل . البداية ، سأذكّركم بقول ما فتئت أردّده و أكتبه ، و لم يتوقّف عنده أحد ، و هو المفصل الرئيسي فيما نشاهد الآن في العالم العربي ، قلت أن "الثورة المصرية هي آخر الثورات البيضاء" . و هذا القول قديم قبل أن تخرج أوّل مظاهرة في سوريا ، ما معنى هذا القول و ما هي أبعاده؟؟

معنى هذا القول من وقع العبارة المكثّفة جدّا هو : رغم عدد الشهداء الكبير نسبيا الذين سقطوا على تراب مصر المقدّس ، إلّا أنّها (أعتبرها ) ثورة بيضاء و كأنّ لا دماء سالت فيها ، نسبة لما سيأتي بعدها ، و سيكون مخضبا بشلاّلات من الدّماء. أي أن أي ثورة عربية ستقوم في أي بلد عربي بعد الثورة المصرية ، ستكون ثورة حمراء قانية بل مجازر بشعة. و ها هو يحصل ، انظروا ما يحدث في ليبيا ... أنظروا ماذا يحدث في اليمن .. أنظروا ماذا يحدث في سوريا...أكّرر هذا القول أطلقته قبل أيام كثيرة من خروج أوّل مظاهرة في سوريا ، يعني لم يكن موجّها لسوريا بل كان استقراء لما يحصل في ليبيا و اليمن . و ها هو يحصل بدليل أن ما استندت عليه في هذا التّحليل و هذا التّوقع صحيحا مائة بالمائة (و بالمناسبة أقول لحضراتكم ، ما زلنا في البداية فالقتل سيكون أشدّ و أعنف)

إلى ماذا استندت حتى أقول أن "الثورة المصرية هي آخر الثورات البيضاء؟؟
استندت إلى التالي
1. الثورة التونسية مفاجئة للجميع أصدقاء و أعداء ، عربا و عجما ، أي تفاجأ فيها الجميع ، الأنظمة العربية إسرائيل و أوروبا و أمريكا .. و لم يسعف الزّمن أحد أن يقول شيئا فيها ، أو يتدخّل أو يعرقل أو يبلور موقفا راسخا.... هل من اعتراض على هذا ؟؟

2. بعدها و بسرعة قياسية ، انفجرت الثورة المصرية المجيدة ، و كانت أحداثها متسارعة ، العالم ظلّ في شدوهه و دهشته ، لا يدرك و لا يستوعب ما يحصل ، تخبّط عربي رسمي (أي الأنظمة العربية) تخبّط إسرائيلي ، تخبّط أمريكي ، و تصريحات متناقضة في اليوم الواحد ، تخبّط و ذهول أوروربي ، النظام المصري نفسه مصعوق و يتصرّف بجنون ، ما إن سقط حسني مبارك ، إلا و قد أدرك الحكّام العرب أنّهم جميعا في خطر و سيهوون ، الحدث الآن ليس في تونس ، البلد العربي الصغير الوادع ، بل الآن في مصر أكبر الدول العربية و أقواها و مركز الأحداث ، أدركت اسرائيل و أمريكا أنهما خسرتا منجزا استراتيجيا لا يعوّض ، و أدرك أمثالي أن فجرا جديدا على العالم العربي ينبلج.... هل من اعتراض على هذا ؟؟

3. لنقف هنا ... ماذا تعتقدون ؟ هل تعتقدون أنّنا وحدنا في العالم ، نخطّط و ننفذ على مزاجنا هكذا ...؟؟ أم لنا خصوم و أعداء ؟؟ و هؤلاء الأعداء و الخصوم ، لا يريدون لنا أن نتنفّس فجرا جديدا ، لأن مصالحهم تقتضي أن نظلّ عبيدا متخلّفين ..
إذا كان هذا الكلام لا نختلف عليه و أعتقد أنه طبيعي و منطقي ، بل طبيعة الأشياء هكذا ، و لو لم يكن لنا خصوم و أعداء لما تدهورنا إلى الحضيض.
هل من يعترض على هذه المعادلة الرياضية البسيطة؟؟

4. ماذا تعتقدون أن أعداءنا و خصومنا هم فاعلون كي يجهضوا أو يعرقوا أو يدمروا هذه التّحولات التي تضرّ بمصالحهم ؟ سيجتمعون ، و يتباحثون ، و يضعوا تصوّرا عن ما يجري ، و سيستعينوا بكل إمكانياتهم الدراسية و البحثية و المخابراتية ، و سيأتي خبراءهم على ضوء كلّ هذا ، و يضعون استراتيجية لمواجهة هذه التّحولات الثورية العربية .. دفاعا عن مصالحهم و أنفسهم ، الآن استيقظوا و استوعبوا ما يجري ، بعد سقوط حسني مبارك أدركوا ما يجري. هل من اعتراض على هذا الكلام البسيط و المبسّط ؟

5. كيف عرفت أنا أن هذا حصل ؟؟ هذه ليست عبقرية و لا تنجيم ، و لا ضربا بالمندل ، و لا أملك المرآة السحرية ، في اللحظة التي تقدّم فيها مجلس التّعاون الخليجي باقتراح للجامعة العربية ، لتوافق هذه الأخيرة على تقديم طلب لمجلس الأمن ، ليبحث المشكلة الليبية ، و يطلبوا منه حظر جوي فوق الأراضي الليبية ... هذا هو الجرس الذي قرع ، أعلن أن الإستراتيجية الأمريكية -الأوروبية - الإسرائيلية - العربية (الأنظمة) قد تبلورت و ها هم يبدأون التنفيذ .. هنا سيصرخ منكم كثيرون ، و سيقلوا ، هذا الموقف كان حماية للشعب الليبي من القذافي المجرم ، و هو موقف إنساني ، و ليس موقف عدائي .. و لا هو تواطؤ و تعاون مع أعداء الأمة ، أقول نعم و لا ..
ظاهريا نعم هذا صحيح ، لكن الأصح أن يقوم العرب أنفسهم بردع القذافي ، و لديهم الإمكانيّات ، لا أن يأتوا بالنيتو كما أتوا به من قبل من أجل إعدام العراق ، كما أن الخوازيق السياسية ، تعودنا على أن يدهنوها لنا بالعسل كي نبلعها بصدر رحب و نحن نهتف بحياتهم لحلاوتهم !!! هذا تكرّر على مدار ستين سنة من الصراع العربي الإسرائيلي ، و ليس صعبا على أي منكم إن تابع سياسات التّنازل العربية ...

أمّا لماذا لا ؟ فإن من يتابع التّحول العربي من المقاطعة العربية لإسرائيل و كل من يتعامل معها ، إلى التعاون معها و الصلح و إقامة علاقات ديبلوماسية ، يعرف أن هذا التّحول لم يحصل في يوم و ليلة ، بل خطوة خطوة ، و كل خطوة تنازل كانت تبدأ من عند الأنظمة العربية ، بالضبط نفس الطريقة البريئة ظاهريا ، التي تقدّم فيها مجلس التّعاون الخليجي باقتراحه في الشأن الليبي.

6. إذن الموقف أصبح واضحا ، خصوم الشعوب العربية المتمثّلين بإسرائيل و أمريكا و النّظام العربي الرسمي ، اتفقوا على خطّة عمل تقوم على عدم السّماح للشعوب العربية أن تفعل ما يحلو لها و تنتقل من الظلام إلى النور ، من قبضتهم إلى فضاء الحرية .
إذن أي حركة شعبية نظيفة ستتم مواجهتها ، هذا قرار نهائي .. لكن كيف ؟

إما بإجهاضها بالقوة و لكم في البحرين مثالا .
إما الاستعانة بقوة غربية (و لكم بليبيا مثالا )
و إماّ من خلال شطر ، تقسيم الشعب إلى معسكرين أو أكثر ، قسم يوالي النّظام و قسم ضدّ النّظام (اليمن لكم مثالا)
و هذه الأخيرة تمهيدا لاقتتال داخلي و فوضى كما حصل في العراق ،
كلّ شيء أصبح مباح ، جميع الأسلحة أصبحت مسموحة ، هي حرب هادئة لكنّها شاملة ، شاملة لكل شيء .. الدين سلاح ، سلامة المواطن سلاح ، حقوق الإنسان سلاح ، التّعليم (السنة الدراسية ضاعت في ليبيا و ضاعت في اليمن) الاقتصاد ، أجهزة الدولة ، الشخصيات ، الرشاوي ، الاغتيالات ، الخطف القتل ، النت الفضائيات الفيديو ، كلّ شيء أصبح مباح ، و كلّه على يد مجهولين كما العادة في العالم كلّه .... أليس هذا ما يجري أمامكم ؟؟

إذن ... هلى التحرّك الشعبي الذي بدأ في سوريا ، ظلّ تحرّكا شعبيا نزيها يريد التّغيير نحو الأفضل اجتماعيا ، و الأفضل اقتصاديا ، و الأفضل سياسيا ...، لو كان كذلك إذن هذا لمصلحة الأمة ، إذا كان لمصلحة الأمة إذن ليس لمصلحة الخصم و العدو ، فهل سيرضى عن هذا الخصم و العدو الذي جهّز استرتيجيّته و بدأ بالتنفيذ ابتداء من ليبيا ؟ أم تتمنوا أن يقف مكتوف الأيدي ، فتصدّقون ما تتمنوه ، و لا ترون إلاّ ما تتمنوا و تريدون ؟ طبعا لن يرضى ، إذن ما المتوقّع ؟ أليس المتوقّع أن يتدخل بأساليبه و استراتيجياته التي نعرف منها بعض الأدوات و بالتكيد هناك أدوات كثيرة لا نعرفها ؟

إذن محصلة حاصل ، الحراك الشعبي في سوريا و في غير سوريا أيضا ، لم يظلّ على حاله ، بل من أيامه الأولى تم امتطاؤه من قبل هؤلاء الخصوم و الأعداء ، و بدأت الفوضى .. أجهزة الأمن التي تقتل ، منها من يقتل وفقا للتعليمات و الأوامر الصادرة على أعلى مستوى ، و منها ليس كذلك ، بل اختراقات في أجهزة الأمن نفسها ، من أجل توريط النّظام في القتل ... كي يُسحب إلى المحكمة الجنائية الدولية ، طالما فشلوا في الماضي بسحبة للمحكمة الدولية لتي نصبت له زورا و ظلما من قتلت الحريري أنفسهم ، هذا فخ وقع الشعب و النّظام معا فيه ، و الذين يدبرون هذا الفخ لا يهمهم لا الشعب و لا غيره حتى لو فني عن آخره..و ستعاد قصة صدام ...هذا ما ننتظر؟

هذا هو المشهد لذي أراه بوضوح .
إذا عرضت أنا هذا المشهد ، هل يعني أنّني ضدّ الشعب السوري ؟ و أصطف إلى جانب النّظام ..؟ أي جهل مطبق هذا و أي سذاجة و سخف ، هذا تجني عليّ ، بل إنه يحزنني حدّ الألم إذ لا أحد يقرأ ما نكتب و لا يفهم إن قرأ و لا يسمع إن تحدّثنا ، كل واحد يرى ما يريد و يقرأ ما يريد و يسمع ما يريد ، هذا فصل كامل ، انقطاع تام عن الواقع ، هذه سباحة في الخيال !! لا توجد مقالة كتبتها أو حديث في الغرفة الصوتية إلا قلت فيه أن الشعب السوري شعبا مظلوما و مقهورا ، و يريد حقوقه الوطنية و الإنسانية ، و كرامته ، و قلت و كتبت ، كم هذا النّظام القائم على الحزب الواحد سمح لطبقة من الطفيليين بالنمو تحت سمعه و بصره ، و هؤلاء لن يكونوا بحال إلا مجرمين و قتلة ، و قامعي حريات و مصادري أرواح..
هذا هو موقفي و هذا هو التّحليل الذي أستند إليه ، ليس فيه شفقة و لا رحمة ، فيه مرارة و خشونة الواقع ، فيه ما أرى لا ما أتمنى و لا ما أريد.

و قلت علينا أن نجد استرتيية بحيث نحافظ من خلالها على الموقف السياسي القومي و الوطني للنظام ، و نضمن للشعب السوري حريته و إنسانيته و كرامته ، و أكتب في نهاية كلّ مشاركة "معا لنبني و نرسخ إدارة فكرية للصراع لا دارة إعلامية "

أقف هنا .. لأعود ثانية كي أعالج بعض المداخلات و على رأسها مداخلة الدكتورة رازان التي فقدت رزانتها و لم تعد تميّز ما هو الفلسطيني و ما هو السوري و ما هو العربي ، عندما نقول نحن إلى جانب كلّ الشعوب العربية بلا استثناء ، تكون هذه حقيقة موقفنا الذهني و العاطفي ، و لا يمكن أن يتغيّر تبعا للحالة العاطفية أو النفسية و المزاج ، و عند أقرب منعطف أخلع عروبتي عن كاهلي ، أو عندما أختلف مع الأستاذ برجيس مثلا تصبح مصر عدوة لي ... ما هذا ؟؟ إذن أين كنت صادقا عندما كنت أتبختر و أتباهى بروبتي أم عندما أعادي مصر لأجل برجيس ؟؟!!
كثيرة هي الأشياء لتي أقولها بحق هذه المداخلة ... كثيرة جدا..

تحياتي ، معا لنبني و نرسخ إدارة فكرية للصراع ـ لا إدارة إعلامية
حكيم