اليوم رأيتها تحضرّ حقيبة السفر ..مجددا ..
ستسافر لكن هذه المرة بصحبة أخي الصغير ..
المرة الماضية أخذت شقيتي معها ..
هكذا دائما .. نتبادل الأدوار والأماكن ..
ما يجمع بيننا في كل مرة مطار .. أو حقائب .. بعض هدايا .. والكثير من أعباء السفر !
اعتدت على الأمر .. لكني ما زلت أكره المطارات .
أشعر أنها في كل مرة تسرق شيئا مني ، أنها تلقيني كحقيبة ضاعت من رجل لا يبحث عنها ..
تركها ترصد خطوات المسافرين، تراقب ملامحهم تبحث فيهم عن عودة ممكنة .. عن وطن لا ينسون وضعه بين الأمتعة .. !
أتذكر المرة الأولى التي وقفت فيها بين الناس ورأيتها تجر حقيبتها نحو البوابة التي تحمل رقم 5 .. لا أذكر إن كانت
خطواتها بطيئة أو سريعة .. كل ما أذكره أني بكيت كثيرا .. وأني شعرت بأنها ستكون المرة الأخيرة ... وأنها لن تعود أبدا ..
لحقت بها مسكتها من ثوبها
-" ماما .. ما تروحي .. خليكي "
عانقتني دون أن تقول شيئا .. ورحلت ..
عندها أصبح شعوري أكثر يقينا ..
في الواقع لي قصص كثيرة من المطارت ، لاسيما مطار بيروت الدولي، لكني لا أحب الحديث عنها إطلاقا ..
قصص تلاحقني .. تُكتب فوق وسادتي .. توقظني إن غفوت .. عبثا كنت أحاول كتابتها .. عبثا كنت أحاول الكتابة عن أي شيء يتعلق بحياتي ..
أحينا تقف الكلمات عند رأس القلم .. أراها تكاد تثب فوق الورقة .. لكن شيئا ما يمنعها .. ربما كنت أنا .. أو ذلك الشيء الغامض في داخلي ..!
تحضرني كلمات أحلام مستغانمي حين تقول في روايتها :
" قبل اليوم، كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم ،دون أن نتألم مرة أخرى!
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين، دون جنون، ودون حقد أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يموت بعضنا أيضا "
لهذا نحن تكتب ؟!
لكني طوال تلك السنوات لم أكتب.. كنت أراوغ فقط ..
ألتف حول نفسي .. لأقول الكلام الآخر .. لأبوح بالحديث الذي لا يعنيني تماما !
وكان الأدب أمنيتي الكاذبة!
لم أقدم له شيئا يذكر .. ولا حلمت بأن أصبح كاتبة .. ولا أن يصبح ذلك الاسم المركب من أربعة حروف مشهورا ..
كل ما أردته هو التخلص من سطور أختنق بها ليلا .. ومن هذيان دفعني للابتعاد عن الناس لتنفرد بي ورقة بيضاء ، ويتحكم بي قلم!
لكني لم أمتلك الجرأة قط للكتابة بصدق ..
كنت فقط أبدل بين الأقنعة .. أختبئ خلف الجمل .. أختلق القصص .. أوهم القارئ بأني أجيد غزل الأطياف .. وأني أجيد قول الحقيقة!
وما هي الحقيقة ؟
الحقيقة أني لست ملاكا .. أني أحيانا أنصت أحيانا لشيطان في داخلي .. أنني صنف آخر من البشر
لا أدري ما هو تماما !
الحقيقة أني رغم ادعائي بالحرية محاصرة بتاء التأنيث .. محاطة بصور من الماضي .. محاصرة بذاتي !
الحقيقة أني رغم كل قوتي ..كثيرا ما أكتب بعكاز .. بعجزي عن لملة نفسي ..
الحقيقة أني ولدت في العاشر من حزيران .. ولكن هذا اليوم يحضر في كل شهر .. في كل يوم..
لا أشعر إلا وإني أكبر .. أكبر بسرعة .. حتى عجزت عن معرفة عمري .. وكيف أحسبه .. وكيف أجعله يقف عند حد ما ..!
أهي المواقف ؟ أم الأحزان ؟
أينبغي في كل لحظة حزينة أن نضيف شمعة إلى قالب الحلوى؟!
لا أدري ..
أكبر فقط .. وتلك الطفلة في داخلي تكبر أيضا .. تطلب مني دراجة في الصباح .. تطلب ألعابا .. بالونا وطيرا أبيض ..
تبكي إذا ما لبيت مطالبها .. فأحاول الركض واللعب والطيران .. لكني أحس أن جسدي ثقيل .. ثقيل جدا ..
وأنني تجاوزت المائة من العمر .. فأهرع إلى فنجان قهوة ساخن .. يخرس الطفلة .. ويعيد بعض التوازن إلى معادلات العمر الصعبة!
ومجددا أحاول أن أكتب ..
لا لأن أستجدي عطف أحد ما .. لا لأبهر قارئا يافعا .. ولا من أجل "أناي" ..
بل ليتوقف ذلك العزف المزعج للناي ..
سطر .. اثنان ..ثلاثة .. الحبر يسيل بصعوبة ..
لن أبلغ السطر الثاني عشر .. يقفي أمامي كحاجز يطلب كل الأوراق .. كل الاعترافات .. فأهرب ..
في السنة الثانية عشر ..كل شيء بدأ ... كل شيء توقف ..
من يدري ربما يوما ما تجاوزها القلم .. !
ربما أشفى .. أو أمتلك الجرأة .. ربما أخلع الأقنعة .. ربما أقول الحقيقة ... ربما .. وربما ..
أو ربما أبقى في نفس الزاوية .. زاوية الصمت !
ستسافر لكن هذه المرة بصحبة أخي الصغير ..
المرة الماضية أخذت شقيتي معها ..
هكذا دائما .. نتبادل الأدوار والأماكن ..
ما يجمع بيننا في كل مرة مطار .. أو حقائب .. بعض هدايا .. والكثير من أعباء السفر !
اعتدت على الأمر .. لكني ما زلت أكره المطارات .
أشعر أنها في كل مرة تسرق شيئا مني ، أنها تلقيني كحقيبة ضاعت من رجل لا يبحث عنها ..
تركها ترصد خطوات المسافرين، تراقب ملامحهم تبحث فيهم عن عودة ممكنة .. عن وطن لا ينسون وضعه بين الأمتعة .. !
أتذكر المرة الأولى التي وقفت فيها بين الناس ورأيتها تجر حقيبتها نحو البوابة التي تحمل رقم 5 .. لا أذكر إن كانت
خطواتها بطيئة أو سريعة .. كل ما أذكره أني بكيت كثيرا .. وأني شعرت بأنها ستكون المرة الأخيرة ... وأنها لن تعود أبدا ..
لحقت بها مسكتها من ثوبها
-" ماما .. ما تروحي .. خليكي "
عانقتني دون أن تقول شيئا .. ورحلت ..
عندها أصبح شعوري أكثر يقينا ..
في الواقع لي قصص كثيرة من المطارت ، لاسيما مطار بيروت الدولي، لكني لا أحب الحديث عنها إطلاقا ..
قصص تلاحقني .. تُكتب فوق وسادتي .. توقظني إن غفوت .. عبثا كنت أحاول كتابتها .. عبثا كنت أحاول الكتابة عن أي شيء يتعلق بحياتي ..
أحينا تقف الكلمات عند رأس القلم .. أراها تكاد تثب فوق الورقة .. لكن شيئا ما يمنعها .. ربما كنت أنا .. أو ذلك الشيء الغامض في داخلي ..!
تحضرني كلمات أحلام مستغانمي حين تقول في روايتها :
" قبل اليوم، كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم ،دون أن نتألم مرة أخرى!
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين، دون جنون، ودون حقد أيضا .
أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يموت بعضنا أيضا "
لهذا نحن تكتب ؟!
لكني طوال تلك السنوات لم أكتب.. كنت أراوغ فقط ..
ألتف حول نفسي .. لأقول الكلام الآخر .. لأبوح بالحديث الذي لا يعنيني تماما !
وكان الأدب أمنيتي الكاذبة!
لم أقدم له شيئا يذكر .. ولا حلمت بأن أصبح كاتبة .. ولا أن يصبح ذلك الاسم المركب من أربعة حروف مشهورا ..
كل ما أردته هو التخلص من سطور أختنق بها ليلا .. ومن هذيان دفعني للابتعاد عن الناس لتنفرد بي ورقة بيضاء ، ويتحكم بي قلم!
لكني لم أمتلك الجرأة قط للكتابة بصدق ..
كنت فقط أبدل بين الأقنعة .. أختبئ خلف الجمل .. أختلق القصص .. أوهم القارئ بأني أجيد غزل الأطياف .. وأني أجيد قول الحقيقة!
وما هي الحقيقة ؟
الحقيقة أني لست ملاكا .. أني أحيانا أنصت أحيانا لشيطان في داخلي .. أنني صنف آخر من البشر
لا أدري ما هو تماما !
الحقيقة أني رغم ادعائي بالحرية محاصرة بتاء التأنيث .. محاطة بصور من الماضي .. محاصرة بذاتي !
الحقيقة أني رغم كل قوتي ..كثيرا ما أكتب بعكاز .. بعجزي عن لملة نفسي ..
الحقيقة أني ولدت في العاشر من حزيران .. ولكن هذا اليوم يحضر في كل شهر .. في كل يوم..
لا أشعر إلا وإني أكبر .. أكبر بسرعة .. حتى عجزت عن معرفة عمري .. وكيف أحسبه .. وكيف أجعله يقف عند حد ما ..!
أهي المواقف ؟ أم الأحزان ؟
أينبغي في كل لحظة حزينة أن نضيف شمعة إلى قالب الحلوى؟!
لا أدري ..
أكبر فقط .. وتلك الطفلة في داخلي تكبر أيضا .. تطلب مني دراجة في الصباح .. تطلب ألعابا .. بالونا وطيرا أبيض ..
تبكي إذا ما لبيت مطالبها .. فأحاول الركض واللعب والطيران .. لكني أحس أن جسدي ثقيل .. ثقيل جدا ..
وأنني تجاوزت المائة من العمر .. فأهرع إلى فنجان قهوة ساخن .. يخرس الطفلة .. ويعيد بعض التوازن إلى معادلات العمر الصعبة!
ومجددا أحاول أن أكتب ..
لا لأن أستجدي عطف أحد ما .. لا لأبهر قارئا يافعا .. ولا من أجل "أناي" ..
بل ليتوقف ذلك العزف المزعج للناي ..
سطر .. اثنان ..ثلاثة .. الحبر يسيل بصعوبة ..
لن أبلغ السطر الثاني عشر .. يقفي أمامي كحاجز يطلب كل الأوراق .. كل الاعترافات .. فأهرب ..
في السنة الثانية عشر ..كل شيء بدأ ... كل شيء توقف ..
من يدري ربما يوما ما تجاوزها القلم .. !
ربما أشفى .. أو أمتلك الجرأة .. ربما أخلع الأقنعة .. ربما أقول الحقيقة ... ربما .. وربما ..
أو ربما أبقى في نفس الزاوية .. زاوية الصمت !
تعليق