كن تلقائيا هنا .. قصة / قصيدة / خاطرة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ربيع عقب الباب
    رد
    الجدارية

    هذا هُوَ اسمُكَ /
    قالتِ امرأةٌ ،
    وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ…
    أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي .
    ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ
    طُفُولَةٍ أَخرى . ولم أَحلُمْ بأني
    كنتُ أَحلُمُ . كُلُّ شيءٍ واقعيٌّ . كُنْتُ
    أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً…
    وأَطيرُ . سوف أكونُ ما سأَصيرُ في
    الفَلَك الأَخيرِ .

    وكُلُّ شيء أَبيضُ ،
    البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ
    بيضاءَ . والَّلا شيء أَبيضُ في
    سماء المُطْلَق البيضاءِ . كُنْتُ ، ولم
    أَكُنْ . فأنا وحيدٌ في نواحي هذه
    الأَبديَّة البيضاء . جئتُ قُبَيْل ميعادي
    فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي :
    (( ماذا فعلتَ ، هناك ، في الدنيا ؟ ))
    ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ ، ولا
    أَنينَ الخاطئينَ ، أَنا وحيدٌ في البياض ،
    أَنا وحيدُ …

    لاشيء يُوجِعُني على باب القيامةِ .
    لا الزمانُ ولا العواطفُ . لا
    أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ
    الهواجس . لم أَجد أَحداً لأسأل :
    أَين (( أَيْني )) الآن ؟ أَين مدينةُ
    الموتى ، وأَين أَنا ؟ فلا عَدَمٌ
    هنا في اللا هنا … في اللازمان ،
    ولا وُجُودُ

    وكأنني قد متُّ قبل الآن …
    أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني
    أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما
    ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ
    ما أُريدُ …
    سأصيرُ يوماً ما أُريدُ

    سأَصيرُ يوماً فكرةً . لا سَيْفَ يحملُها
    إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتابَ …
    كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من
    تَفَتُّح عُشْبَةٍ ،
    لا القُوَّةُ انتصرتْ
    ولا العَدْلُ الشريدُ

    سأَصير يوماً ما أُريدُ

    سأصير يوماً طائراً ، وأَسُلُّ من عَدَمي
    وجودي . كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ
    اقتربتُ من الحقيقةِ ، وانبعثتُ من
    الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين ، عَزَفْتُ
    عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ
    رحلتي الأولى إلى المعنى ، فأَحْرَقَني
    وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ
    الطريدُ .

    سأَصير يوماً ما أُريدُ

    سأَصير يوماً كرمةً ،
    فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن ،
    وليشربْ نبيذي العابرون على
    ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ !
    أَنا الرسالةُ والرسولُ
    أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ

    سأَصير يوماً ما أُريدُ

    هذا هُوَ اسمُكَ /
    قالتِ امرأةٌ ،
    وغابتْ في مَمَرِّ بياضها .
    هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً !
    لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ
    ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ ،
    كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ
    جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى
    ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء
    واكتُبْهُ على إحدى صُخُور الكهف ،
    يااسمي : سوف تكبَرُ حين أَكبَرُ
    سوف تحمِلُني وأَحملُكَ
    الغريبُ أَخُ الغريب
    سنأخُذُ الأُنثى بحرف العِلَّة المنذور للنايات
    يا اسمي: أَين نحن الآن ؟
    قل : ما الآن ، ما الغَدُ ؟
    ما الزمانُ وما المكانُ
    وما القديمُ وما الجديدُ ؟

    سنكون يوماً ما نريدُ

    لا الرحلةُ ابتدأتْ ، ولا الدربُ انتهى
    لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ
    كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
    ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ ،
    فلنذهب إلى أَعلى الجداريات :
    أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةُ ،
    كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي
    وأَنا البعيدُ
    أَنا البعيدُ

    في كُلِّ ريحٍ تَعْبَثُ امرأةٌ بشاعرها
    - خُذِ الجهةَ التي أَهديتني
    الجهةَ التي انكَسَرتْ ،
    وهاتِ أُنوثتي ،
    لم يَبْقَ لي إلاّ التَأمُّلُ في
    تجاعيد البُحَيْرَة . خُذْ غدي عنِّي
    وهاتِ الأمس ، واتركنا معاً
    لا شيءَ ، بعدَكَ ، سوف يرحَلُ
    أَو يَعُودُ

    - وخُذي القصيدةَ إن أَردتِ
    فليس لي فيها سواكِ
    خُذي (( أَنا )) كِ . سأُكْملُ المنفى
    بما تركَتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ .
    فأيُّنا منا (( أَنا )) لأكون آخرَها ؟
    ستسقطُ نجمةٌ بين الكتابة والكلامِ
    وتَنْشُرُ الذكرى خواطرها : وُلِدْنا
    في زمان السيف والمزمار بين
    التين والصُبَّار . كان الموتُ أَبطأَ .
    كان أَوْضَح . كان هُدْنَةَ عابرين
    على مَصَبِّ النهر . أَما الآن ،
    فالزرُّ الإلكترونيُّ يعمل وَحْدَهُ . لا
    قاتلٌ يُصْغي إلى قتلى . ولا يتلو
    وصيَّتَهُ شهيدُ

    من أَيِّ ريح جئتِ ؟
    قولي ما اسمُ جُرْحِكِ أَعرفِ
    الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ !
    وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني
    إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي
    والملحُ يوجعني … ويوجعني الوريدُ

    في الجرّة المكسورةِ انتحبتْ نساءُ
    الساحل السوريّ من طول المسافةِ ،
    واحترقْنَ بشمس آبَ . رأيتُهنَّ على
    طريق النبع قبل ولادتي . وسمعتُ
    صَوْتَ الماء في الفخّار يبكيهنّ :
    عُدْنَ إلى السحابة يرجعِ الزَمَنُ الرغيدُ

    قال الصدى :
    لاشيء يرجعُ غيرُ ماضي الأقوياء
    على مِسلاَّت المدى … [ ذهبيّةٌٌ آثارُهُمْ
    ذهبيّةٌٌ ] ورسائلِ الضعفاءِ للغَدِ ،
    أَعْطِنا خُبْزَ الكفاف ، وحاضراً أَقوى .
    فليس لنا التقمُّصُ والحُلُولُ ولا الخُلُودُ

    قال الصدى :
    وتعبتُ من أَملي العُضَال . تعبتُ
    من شَرَك الجماليّات : ماذا بعد
    بابلَ؟ كُلَّما اتَّضَحَ الطريقُ إلى
    السماء ، وأَسْفَرَ المجهولُ عن هَدَفٍ
    نهائيّ تَفَشَّى النثرُ في الصلوات ،
    وانكسر النشيدُ

    خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ عالية ٌ…
    تُطِلُّ عليَّ من بطحاء هاويتي …
    غريبٌ أَنتَ في معناك . يكفي أَن
    تكون هناك ، وحدك ، كي تصيرَ
    قبيلةً…
    غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ
    في وَجَع الحمامةِ ،
    لا لأَشْرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان ،
    لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً
    وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ

    وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من
    لُغَتي . ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف
    الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،
    وللكلمات وَهيَ بعيدةٌ أَرضٌ تُجاوِرُ
    كوكباً أَعلى . وللكلمات وَهيَ قريبةٌ
    منفى . ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول :
    وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب .
    وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ
    الآخرين . وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم
    أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبةِ ،
    هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ ؟

    وأَنا الغريبُ . تَعِبْتُ من ” درب الحليب ”
    إلى الحبيب . تعبتُ من صِفَتي .
    يَضيقُ الشَّكْلُ . يَتّسعُ الكلامُ . أُفيضُ
    عن حاجات مفردتي . وأَنْظُرُ نحو
    نفسي في المرايا :
    هل أَنا هُوَ ؟
    هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل
    الأخيرِ ؟
    وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض ،
    أَم فُرِضَتْ عليَّ ؟
    وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
    أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
    لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
    انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
    وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ ؟

    وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ :
    هل أَنا هُوَ ؟
    هذه لُغَتي . وهذا الصوت وَخْزُ دمي
    ولكن المؤلِّف آخَرٌ…
    أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ
    أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ
    أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ :
    اكتُبْ تَكُنْ !
    واقرأْ تَجِدْ !
    وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ
    ضدَّاكَ في المعنى …
    وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ

    بَحَّارَةٌ حولي ، ولا ميناء
    أَفرغني الهباءُ من الإشارةِ والعبارةِ ،
    لم أَجد وقتاً لأعرف أَين مَنْزِلَتي ،
    الهُنَيْهةَ ، بين مَنْزِلَتَيْنِ . لم أَسأل
    سؤالي ، بعد ، عن غَبَش التشابُهِ
    بين بابَيْنِ : الخروج أم الدخول …
    ولم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياةَ .
    ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ : أَيُّها
    الزَمَنُ السريعُ ! خَطَفْتَني مما تقولُ
    لي الحروفُ الغامضاتُ :
    ألواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ

    يا أيها الزَمَنُ الذي لم ينتظِرْ …
    لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ ،
    دَعِ الماضي جديداً ، فَهْوَ ذكراكَ
    الوحيدةُ بيننا ، أيَّامَ كنا أَصدقاءك ،
    لا ضحايا مركباتك . واترُكِ الماضي
    كما هُوَ ، لا يُقَادُ ولا يَقُودُ

    ورأيتُ ما يتذكَّرُ الموتى وما ينسون …
    هُمْ لا يكبرون ويقرأون الوَقْتَ في
    ساعات أيديهمْ . وَهُمْ لايشعرون
    بموتنا أَبداً ولا بحياتهِمْ . لا شيءَ
    ممَّا كُنْتُ أو سأكونُ . تنحلُّ الضمائرُ
    كُلُّها . ” هو ” في ” أنا ” في ” أَنت ” .
    لا كُلٌّ ولاجُزْءٌ . ولا حيٌّ يقول
    لميِّتٍ : كُنِّي !

    .. وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ . لا
    أَرى جَسَدي هُنَاكَ ، ولا أُحسُّ
    بعنفوان الموت ، أَو بحياتيَ الأُولى .
    كأنِّي لَسْتُ منّي . مَنْ أَنا ؟ أَأَنا
    الفقيدُ أَم الوليدُ ؟

    الوقْتُ صِفْرٌ . لم أُفكِّر بالولادة
    حين طار الموتُ بي نحو السديم ،
    فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً،
    ولا عَدَمٌ هناك ، ولا وُجُودُ

    تقولُ مُمَرِّضتي : أَنتَ أَحسَنُ حالا ً.
    وتحقُنُني بالمُخَدِّر : كُنْ هادئاً
    وجديراً بما سوف تحلُمُ
    عما قليل …

    رأيتُ طبيبي الفرنسيَّ
    يفتح زنزانتي
    ويضربني بالعصا
    يُعَاونُهُ اثنانِ من شُرْطة الضاحيةْ

    رأيتُ أَبي عائداً
    من الحجِّ ، مُغمىً عليه
    مُصَاباً بضربة شمسٍ حجازيّة
    يقول لرفِّ ملائكةٍ حَوْلَهُ :
    أَطفئوني ! …

    رأيتُ شباباً مغاربةً
    يلعبون الكُرَةْ
    ويرمونني بالحجارة : عُدْ بالعبارةِ
    واترُكْ لنا أُمَّنا
    يا أَبانا الذي أخطَأَ المقبرةْ !

    رأيت ” ريني شار ”
    يجلس مع ” هيدغر ”
    على بُعْدِ مترين منِّي ،
    رأيتهما يشربان النبيذَ
    ولا يبحثان عن الشعر …
    كان الحوار شُعَاعاً
    وكان غدٌ عابرٌ ينتظرْ

    رأيتُ رفاقي الثلاثَةَ ينتحبونَ
    وَهُمْ
    يَخيطونَ لي كَفَناً
    بخُيوطِ الذَّهَبْ

    رأيت المعريَّ يطرد نُقَّادَهُ
    من قصيدتِهِ :
    لستُ أَعمى
    لأُبْصِرَ ما تبصرونْ ،
    فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي
    إلى عَدَمٍ …. أَو جُنُونْ

    رأيتُ بلاداً تعانقُني
    بأَيدٍ صَبَاحيّة : كُنْ
    جديراً برائحة الخبز . كُنْ
    لائقا ً بزهور الرصيفْ
    فما زال تَنُّورُ أُمِّكَ
    مشتعلاً ،
    والتحيَّةُ ساخنةً كالرغيفْ !

    خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ . نهرٌ واحدٌ يكفي
    لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أُختي ، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ
    الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر ، وَهْوَ يُبَدِّلُ
    الراياتِ والقممَ البعيدةَ ، حيث أَنشأتِ الجيوشُ ممالِكَ
    النسيان لي . لاشَعْبَ أَصْغَرُ من قصيدته . ولكنَّ السلاحَ
    يُوَسِّعُ الكلمات للموتى وللأحياء فيها ، والحُرُوفَ تُلَمِّعُ
    السيفَ المُعَلَّقَ في حزام الفجر ، والصحراء تنقُصُ
    بالأغاني ، أَو تزيدُ

    لاعُمْرَ يكفي كي أَشُدَّ نهايتي لبدايتي
    أَخَذَ الرُّعَاةُ حكايتي وتَوَغَّلُوا في العشب فوق مفاتن
    الأنقاض ، وانتصروا على النسيان بالأَبواق والسَّجَع
    المشاع ، وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع ، ولم
    يعودوا …

    رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة ، لم أَجد لَيْلاً
    خُصُوصِيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
    ما حاجتي لاسمي بدونكَ ؟ نادني ، فأنا خلقتُكَ
    عندما سَمَّيْتَني ، وقتلتَني حين امتلكتَ الاسمَ …
    كيف قتلتَني ؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل ، أَدْخِلْني
    إلى غابات شهوتك ، احتضنِّي واعْتَصِرْني ،
    واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل .
    بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولُمَّني .
    فالليل يُسْلِمُ روحَهُ لك يا غريبُ ، ولن تراني نجمةٌ
    إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
    فهاتِني ليكونَ لي - وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ -
    حاضِريَ السعيدُ

    - هل قُلْتَ لي شيئاً يُغَيِّر لي سبيلي ؟
    - لم أَقُلْ . كانت حياتي خارجي
    أَنا مَنْ يُحَدِّثُ نفسَهُ :
    وَقَعَتْ مُعَلَّقتي الأَخيرةُ عن نخيلي
    وأَنا المُسَافِرُ داخلي
    وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ ،
    لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها
    وبطائرِ الدوريِّ …
    لم أُولَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ
    اللهِ
    يأخُذُني الجمالُ إلى الجميلِ
    وأُحبُّ حُبَّك ، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ
    وأِنا بديلي …

    أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ :
    مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار
    والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ،
    بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ
    في ليلٍ طويلٍ …

    أَنا مَنْ يحدِّثُ نَفْسَهُ
    ويروِّضُ الذكرى … أَأَنتِ أَنا ؟
    وثالثُنا يرفرف بيننا ” لا تَنْسَيَاني دائماً ”
    يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق …
    لا شَمْسٌ ولا قَمَرٌ عليَّ
    تركتُ ظلِّي عالقاً بغصون عَوْسَجَةٍ
    فخفَّ بِيَ المكانُ
    وطار بي روحي الشَّرُودُ

    أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ :
    يا بنتُ : ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ ؟
    إن الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ،
    نضجتِ يا امرأتي على عُكَّازَتيَّ ،
    بوسعك الآن الذهابُ على ” طريق دمشق ”
    واثقةً من الرؤيا . مَلاَكٌ حارسٌ
    وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا ، والأرضُ عيدُ …

    الأرضُ عيدُ الخاسرين [ ونحن منهُمْ ]
    نحن من أَثَرِ النشيد الملحميِّ على المكان ، كريشةِ النَّسْرِ
    العجوز خيامُنا في الريح . كُنَّا طيِّبين وزاهدين بلا تعاليم
    المسيح . ولم نكُنْ أَقوى من الأعشابِ إلاّ في ختام
    الصَيْفِ ،
    أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ
    لم نَرِثْ شيئاً سوى اسْميْنَا
    وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ
    عند مفترق النشيد الملحميِّ …
    ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كُنَّ يبدأن النشيد
    بسحرهنَّ وكيدهنَّ . وكُنَّ يَحْمِلْنَ المكانَ على قُرُون
    الوعل من زَمَنِ المكان إلى زمان آخرٍ …

    كنا طبيعيِّين لو كانت نجومُ سمائنا أَعلى قليلاً من
    حجارة بئرنا ، والأَنبياءُ أَقلَّ إلحاحاً ، فلم يسمع مدائحَنا
    الجُنُودُ …

    خضراءُ ، أرضُ قصيدتي خضراءُ
    يحملُها الغنائيّون من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ كما هِيَ في
    خُصُوبتها .
    ولي منها : تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ
    ولي منها وُضُوحُ الظلِّ في المترادفات
    ودقَّةُ المعنى …
    ولي منها : التَّشَابُهُ في كلام الأَنبياءِ
    على سُطُوح الليلِ
    لي منها : حمارُ الحكمةِ المنسيُّ فوق التلِّ
    يسخَرُ من خُرافتها وواقعها …
    ولي منها : احتقانُ الرمز بالأضدادِ
    لا التجسيدُ يُرجِعُها من الذكرى
    ولا التجريدُ يرفَعُها إلى الإشراقة الكبرى
    ولي منها : ” أَنا ” الأُخرى
    تُدَوِّنُ في مُفَكِّرَة الغنائيِّين يوميَّاتها :
    (( إن كان هذا الحُلْمُ لا يكفي
    فلي سَهَرٌ بطوليٌّ على بوابة المنفى … ))
    ولي منها : صَدَى لُغتي على الجدران
    يكشِطُ مِلْحَهَا البحريَّ
    حين يخونني قَلْبٌ لَدُودُ …

    أَعلى من الأَغوار كانت حكمتي
    إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي !
    لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني
    كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم
    وصاعداً نحو السماء ، هُنَاكَ مملكتي
    خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ
    التاريخَ … واصنَعْ بالغرائز ما تريدُ

    وَلِيَ السكينةُ . حَبَّةُ القمح الصغيرةُ
    سوف تكفينا ، أَنا وأَخي العَدُوّ ،
    فساعتي لم تَأْتِ بَعْدُ . ولم يَحِنْ
    وقتُ الحصاد . عليَّ أَن أَلِجَ الغيابَ
    وأَن أُصدِّقَ أوَّلاً قلبي وأتبعَهُ إلى
    قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بَعْدُ .
    لَعَلَّ شيئاً فيَّ ينبُذُني . لعلِّي واحدٌ
    غيري . فلم تنضج كُرومُ التين حول
    ملابس الفتيات بَعْدُ . ولم تَلِدْني
    ريشةُ العنقاء . لا أَحَدٌ هنالك
    في انتظاري . جئْتُ قبل ، وجئتُ
    بعد ، فلم أَجد أحداً يُصَدِّق ما
    أرى . أنا مَنْ رأى . وأَنا البعيدُ
    أَنا البعيدُ

    مَنْ أَنتَ ، يا أَنا ؟ في الطريقِ
    اثنانِ نَحْنُ ، وفي القيامة واحدٌ .
    خُذْني إلى ضوء التلاشي كي أَرى
    صَيْرُورتي في صُورَتي الأُخرى . فَمَنْ
    سأكون بعدَكَ ، يا أَنا ؟ جَسَدي
    ورائي أم أَمامَكَ ؟ مَنْ أَنا يا
    أَنت ؟ كَوِّنِّي كما كَوَّنْتُكَ ، ادْهَنِّي
    بزيت اللوز ، كَلِّلني بتاج الأرز .
    واحملني من الوادي إلى أَبديّةٍ
    بيضاءَ . عَلِّمني الحياةَ على طريقتِكَ ،
    اختَبِرْني ذَرَّةً في العالم العُلْوِيِّ .
    ساعِدْني على ضَجَر الخلود ، وكُنْ
    رحيماً حين تجرحني وتبزغ من
    شراييني الورودُ …

    لم تـأت سـاعـتُنا . فـلا رُسُـلٌ يَـقِـيـسُـونَ
    الزمانَ بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكةٌ
    يزورون المكانَ ليتركَ الشعراءُ ماضِيَهُمْ على الشَّفَق
    الجميل ، ويفتحوا غَدَهُمْ بأيديهمْ .
    فغنِّي يا إلهتيَ الأثيرةَ ، ياعناةُ ،
    قصيدتي الأُولى عن التكوين ثانيةً …
    فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد
    للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ . وقد يجدُ
    الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية . وقد
    تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
    المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ
    بقافيةٍ ، فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ
    يا عناةُ ، أَنا الطريدةُ والسهامُ ،
    أَنا الكلامُ . أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ
    والشهيدُ

    ما قلتُ للطَّلَلِ : الوداع . فلم أَكُنْ
    ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً . ما كُنْتُ إلاّ
    مرَّةً تكفي لأَعرف كيف ينكسرُ الزمانُ
    كخيمة البدويِّ في ريح الشمال ،
    وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي
    نُثَارَ المعبد المهجور . يُشبهُني كثيراً
    كُلُّ ما حولي ، ولم أُشْبِهْ هنا
    شيئاً . كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على
    المرضى الغنائيِّين ، أَحفادِ الشياطين
    المساكين المجانين الذين إذا رأوا
    حُلْماً جميلاً لَقَّنُوا الببغاءَ شِعْر
    الحب ، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ …

    وأُريدُ أُن أُحيا …
    فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا
    لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
    دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
    عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
    يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟
    هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟
    ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من
    الموتى ليخبرنا الحقيقة … /
    أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ،
    انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي
    حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
    قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي
    قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني
    الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ
    حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … /
    فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي
    تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ،
    حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء
    من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
    وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
    الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني
    بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
    سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا
    صامتين معي على خطوات أَجدادي
    ووقع الناي في أَزلي . ولا
    تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ
    زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت
    الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على
    التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ
    وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ
    وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ
    الكنائس للكنائس والعرائس /
    أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ
    حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني
    وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ .
    هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل
    تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء ،
    أم تبقى كما هِي في الخريف وفي
    الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
    لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ
    مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ،
    دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ
    فُصْحى/

    .. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ،
    حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
    وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
    يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
    بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ
    مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..
    ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :
    لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ
    تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها /
    يا موت ! ياظلِّي الذي
    سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا
    لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ،
    يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب
    الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ
    على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ
    تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت
    سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ
    يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ
    الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من
    نظام الطبّ . أَقوى من جهاز
    تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ،
    ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي .
    فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ
    أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب .
    كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا
    تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي
    الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في
    الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ
    الثعالب . كُنْ
    فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ
    ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى
    أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا
    أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. /
    ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على
    الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا
    تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ
    إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ
    الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا
    اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا
    لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
    قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
    شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في
    البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /
    هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
    هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد
    الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ،
    النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
    وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك
    الخُلُودُ …
    فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ

    وأَنا أُريدُ ، أريدُ أَن أَحيا …
    فلي عَمَلٌ على جغرافيا البركان .
    من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما
    واليبابُ هو اليبابُ . كأنني أَحيا
    هنا أَبداً ، وبي شَبَقٌ إلى ما لست
    أَعرف . قد يكون ” الآن ” أَبعَدَ .
    قد يكونُ الأمس أَقربَ . والغَدُ الماضي .
    ولكني أَشدُّ ” الآن ” من يَدِهِ ليعبُرَ
    قربيَ التاريخُ ، لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ ،
    مثل فوضى الماعز الجبليِّ . هل
    أنجو غداً من سرعة الوقت الإلكترونيّ ،
    أَم أَنجو غداً من بُطْء قافلتي
    على الصحراء؟ لي عَمَلٌ لآخرتي
    كأني لن أَعيش غداً. ولي عَمَلٌ ليومٍ
    حاضرٍ أَبداً . لذا أُصغي ، على مَهَلٍ
    على مَهَل ، لصوت النمل في قلبي :
    أعينوني على جَلَدي . وأَسمع صَرْخَةَ
    الحَجَر الأسيرةَ : حَرِّروا جسدي . وأُبصرُ
    في الكمنجة هجرةَ الأشواق من بَلَدٍ
    تُرَابيّ إلى بَلَدٍ سماويّ . وأَقبضُ في
    يد الأُنثى على أَبَدِي الأليفِ : خُلِقتُ
    ثم عَشِقْتُ ، ثم زهقت ، ثم أَفقتُ
    في عُشْبٍ على قبري يدلُّ عليَّ من
    حينٍ إلى حينٍ . فما نَفْعُ الربيع
    السمح إن لم يُؤْنِس الموتى ويُكْمِلْ
    بعدهُمْ فَرَحَ الحياةِ ونَضْرةَ النسيان ؟
    تلك طريقةٌ في فكِّ لغز الشعرِ ،
    شعري العاطفيّ على الأَقلِّ . وما
    المنامُ سوى طريقنا الوحيدة في الكلام /
    وأَيُّها الموتُ التَبِسْ واجلسْ
    على بلَّوْرِ أَيامي ، كأنَّكَ واحدٌ من
    أَصدقائي الدائمين ، كأنَّكَ المنفيُّ بين
    الكائنات . ووحدك المنفيُّ . لا تحيا
    حياتَكَ . ما حياتُكَ غير موتي . لا
    تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفالَ
    من عَطَشِ الحليب إلى الحليب . ولم
    تكن طفلاً تهزُّ له الحساسينُ السريرَ ،
    ولم يداعِبْكَ الملائكةُ الصغارُ ولا
    قُرونُ الأيِّل الساهي ، كما فَعَلَتْ لنا
    نحن الضيوفَ على الفراشة . وحدك
    المنفيُّ ، يا مسكين ، لا امرأةٌ تَضُمُّك
    بين نهديها ، ولا امرأةٌ تقاسِمُك
    الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيِّ
    المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
    ولم تَلِدْ وَلَداً يجيئك ضارعاً : أَبتي ،
    أُحبُّكَ . وحدك المنفيُّ ، يا مَلِكَ
    الملوك ، ولا مديحَ لصولجانكَ . لا
    صُقُورَ على حصانك . لا لآلئَ حول
    تاجك . أَيُّها العاري من الرايات
    والبُوق المُقَدَّسِ ! كيف تمشي هكذا
    من دون حُرَّاسٍ وجَوْقَةِ منشدين ،
    كَمِشْيَة اللصِّ الجبان . وأَنتَ مَنْ
    أَنتَ ، المُعَظَّمُ ، عاهلُ الموتى ، القويُّ ،
    وقائدُ الجيش الأَشوريِّ العنيدُ
    فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ

    وأَنا أُريدُ ، أُريد أَن أَحيا ، وأَن
    أَنساك …. أَن أَنسى علاقتنا الطويلة
    لا لشيءٍ ، بل لأَقرأ ما تُدَوِّنُهُ
    السماواتُ البعيدةُ من رسائلَ . كُلَّما
    أَعددتُ نفسي لا نتظار قدومِكَ
    ازددتَ ابتعاداً . كلما قلتُ : ابتعدْ
    عني لأُكمل دَوْرَةَ الجَسَدَيْنِ ، في جَسَدٍ
    يفيضُ ، ظهرتَ ما بيني وبيني
    ساخراً : ” لا تَنْسَ مَوْعِدَنا … ”
    - متى ؟ - في ذِرْوَة النسيان
    حين تُصَدِّقُ الدنيا وتعبُدُ خاشعاً
    خَشَبَ الهياكل والرسومَ على جدار الكهف ،
    حيث تقول : ” آثاري أَنا وأَنا ابنُ نفسي ” . - أَين موعدُنا ؟
    أَتأذن لي بأن أَختار مقهىً عند
    باب البحر ؟ - لا …. لا تَقْتَرِبْ
    يا ابنَ الخطيئةِ ، يا ابن آدمَ من
    حدود الله ! لم تُولَدْ لتسأل ، بل
    لتعمل …. - كُن صديقاً طَيِّباً يا
    موت ! كُنْ معنىً ثقافياً لأُدرك
    كُنْهَ حكمتِكَ الخبيئةِ ! رُبَّما أَسْرَعْتَ
    في تعليم قابيلَ الرمايةَ . رُبَّما
    أَبطأتَ في تدريب أَيُّوبٍ على
    الصبر الطويل . وربما أَسْرَجْتَ لي
    فَرَسا ً لتقتُلَني على فَرَسي . كأني
    عندما أَتذكَّرُ النسيانَ تُنقِذُ حاضري
    لُغَتي . كأني حاضرٌ أَبداً . كأني
    طائر أَبداً . كأني مُذْ عرفتُكَ
    أَدمنتْ لُغَتي هَشَاشَتَها على عرباتك
    البيضاءِ ، أَعلى من غيوم النوم ،
    أَعلى عندما يتحرَّرُ الإحساس من عبء
    العناصر كُلّها . فأنا وأَنتَ على طريق
    الله صوفيَّانِ محكومان بالرؤيا ولا يَرَيَان /
    عُدْ يا مَوْتُ وحدَكَ سالماً ،
    فأنا طليق ههنا في لا هنا
    أو لا هناك . وَعُدْ إلى منفاك
    وحدك . عُدْ إلى أدوات صيدك ،
    وانتظرني عند باب البحر . هَيِّئ لي
    نبيذاً أَحمراً للاحتفال بعودتي لِعِيادَةِ
    الأرضِ المريضة . لا تكن فظّا ً غليظ
    القلب ! لن آتي لأَسخر منك ، أَو
    أَمشي على ماء البُحَيْرَة في شمال
    الروح . لكنِّي - وقد أَغويتَني - أَهملتُ
    خاتمةَ القصيدةِ : لم أَزفَّ إلى أَبي
    أُمِّي على فَرَسي . تركتُ الباب مفتوحاً
    لأندلُسِ الغنائيِّين ، واخترتُ الوقوفَ
    على سياج اللوز والرُمَّان ، أَنفُضُ
    عن عباءة جدِّيَ العالي خُيُوطَ
    العنكبوت . وكان جَيْشٌ أَجنبيٌّ يعبر
    الطُرُقَ القديمةَ ذاتها ، ويَقِيسُ أَبعادَ
    الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها … /

    يا موت ، هل هذا هو التاريخُ ،
    صِنْوُكَ أَو عَدُوُّك ، صاعداً ما بين
    هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عُشَّها
    وتبيضُ في خُوَذ الحديد . وربما ينمو
    نباتُ الشِّيحِ في عَجَلاتِ مَرْكَبَةٍ مُحَطَّمةٍ .
    فماذا يفعل التاريخُ ، صنوُكَ أو عَدُوُّكَ ،
    بالطبيعة عندما تتزوَّجُ الأرضَ السماءُ
    وتذرفُ المَطَرَ المُقَدَّسَ ؟ /

    أَيها الموت ، انتظرني عند باب
    البحر في مقهى الرومانسيِّين . لم
    أَرجِعْ وقد طاشَتْ سهامُكَ مَرَّةً
    إلاّ لأُودِعَ داخلي في خارجي ،
    وأُوزِّعَ القمح الذي امتلأتْ به رُوحي
    على الشحرور حطَّ على يديَّ وكاهلي ،
    وأُودِّعَ الأرضَ التي تمتصُّني ملحاً ، وتنثرني
    حشيشاً للحصان وللغزالة . فانتظرني
    ريثما أُنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
    ولا تُصَدِّقْني أَعودُ ولا أَعودُ
    وأَقول : شكراً للحياة !
    ولم أكن حَيّاً ولا مَيْتاً
    ووحدك ، كنتَ وحدك ، يا وحيدُ !

    تقولُ مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
    كثيراً ، وتصرخُ : يا قلبُ !
    يا قَلْبُ ! خُذْني
    إلى دَوْرَة الماءِ …/

    ما قيمةُ الروح إن كان جسمي
    مريضاً ، ولا يستطيعُ القيامَ
    بواجبه الأوليِّ ؟
    فيا قلبُ ، يا قلبُ أَرجعْ خُطَايَ
    إليَّ ، لأَمشي إلى دورة الماء
    وحدي !

    نسيتُ ذراعيَّ ، ساقيَّ ، والركبتين
    وتُفَّاحةَ الجاذبيَّةْ
    نسيتُ وظيفةَ قلبي
    وبستانَ حوَّاءَ في أَوَّل الأبديَّةْ
    نسيتُ وظيفةَ عضوي الصغير
    نسيتُ التنفُّسَ من رئتيّ .
    نسيتُ الكلام
    أَخاف على لغتي
    فاتركوا كُلَّّ شيء على حالِهِ
    وأَعيدوا الحياة إلى لُغَتي !..

    تقول مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
    كثيراً ، وتصرخ بي قائلا ً :
    لا أُريدُ الرجوعَ إلى أَحَدِ
    لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلدِ
    بعد هذا الغياب ألطويل …
    أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
    إلى لغتي في أقاصي الهديل

    تقولُ مُمَرِّضتي :
    كُنْتَ تهذي طويلا ً ، وتسألني :
    هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
    أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ ؟

    خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةٌ …
    على مَهَلٍ أُدوِّنُها ، على مَهَلٍ ، على
    وزن النوارس في كتاب الماءِ . أَكتُبُها
    وأُورِثُها لمنْ يتساءلون : لمنْ نُغَنِّي
    حين تنتشرُ المُلُوحَةُ في الندى ؟ …
    خضراءُ ، أكتُبُها على نَثْرِ السنابل في
    كتاب الحقلِ ، قَوَّسَها امتلاءٌ شاحبٌ
    فيها وفيَّ . وكُلَّما صادَقْتُ أَو
    آخَيْتُ سُنْبُلةً تَعَلَّمْتُ البقاءَ من
    الفَنَاء وضدَّه : (( أَنا حَبَّةُ القمح
    التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً . وفي
    موتي حياةٌ ما … ))

    كأني لا كأنّي
    لم يمت أَحَدٌ هناك نيابةً عني .
    فماذا يحفظُ الموتى من الكلمات غيرَ
    الشُّكْرِ : ” إنَّ الله يرحَمُنا ” …
    ويُؤْنِسُني تذكُّرُ ما نَسِيتُ مِنَ
    البلاغة : ” لم أَلِدْ وَلَدا ً ليحمل مَوْتَ
    والِدِهِ ” …
    وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات ….
    سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذَّّكَر المُلائِمِ
    في جُنُوح الشعر نحو النثر ….
    سوف تشُّبُّ أَعضائي على جُمَّيزَةٍ ،
    ويصُبُّ قلبي ماءَهُ الأَرضيَّ في
    أَحَدِ الكواكب … مَنْ أَنا في الموت
    بعدي ؟ مَنْ أَنا في الموت قبلي
    قال طيفٌ هامشيٌّ : (( كان أوزيريسُ
    مثْلَكَ ، كان مثلي . وابنُ مَرْيَمَ
    كان مثلَكَ ، كان مثلي . بَيْدَ أَنَّ
    الجُرْحَ في الوقت المناسب يُوجِعُ
    العَدَمَ المريضَ ، ويَرْفَعُ الموتَ المؤقَّّتَ
    فكرةً … )).
    من أَين تأتي الشاعريَّةُ ؟ من
    ذكاء القلب ، أَمْ من فِطْرة الإحساس
    بالمجهول ؟ أَمْ من وردةٍ حمراءَ
    في الصحراء ؟ لا الشخصيُّ شخصيُّ
    ولا الكونيُّ كونيٌّ …

    كأني لا كأني …/
    كلما أَصغيتُ للقلب امتلأتُ
    بما يقول الغَيْبُ ، وارتفعتْ بِيَ
    الأشجارُ . من حُلْم إلى حُلْمٍ
    أَطيرُ وليس لي هَدَفٌ أَخيرٌ .
    كُنْتُ أُولَدُ منذ آلاف السنين
    الشاعريَّةِ في ظلامٍ أَبيض الكتّان
    لم أَعرف تماماً مَنْ أَنا فينا ومن
    حُلْمي . أَنا حُلْمي
    كأني لا كأني …
    لم تَكُنْ لُغَتي تُودِّعُ نَبْرها الرعويَّ
    إلاّ في الرحيل إلى الشمال . كلابُنا
    هَدَأَتْ . وماعِزُنا توشَّح بالضباب على
    التلال . وشجَّ سَهْمٌ طائش وَجْهَ
    اليقين . تعبتُ من لغتي تقول ولا
    تقولُ على ظهور الخيل ماذا يصنعُ
    الماضي بأيَّامِ امرئ القيس المُوَزَّعِ
    بين قافيةٍ وقَيْصَرَ …/
    كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ آلهتي ،
    هنالك ، في بلاد الأرجوان أَضاءني
    قَمَرٌ تُطَوِّقُهُ عناةُ ، عناةُ سيِّدَةُ
    الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي على
    أَحَدِ ، ولكنْ من مَفَاتِنِها بَكَتْ :
    هَلْ كُلُّ هذا السحرِ لي وحدي
    أَما من شاعرٍ عندي
    يُقَاسِمُني فَرَاغَ التَخْتِ في مجدي ؟
    ويقطفُ من سياج أُنوثتي
    ما فاض من وردي ؟
    أَما من شاعر يُغْوي
    حليبَ الليل في نهدي ؟
    أَنا الأولى
    أَنا الأخرى
    وحدِّي زاد عن حدِّي
    وبعدي تركُضُ الغِزلانُ في الكلمات
    لا قبلي … ولا بعدي /

    سأحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
    أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
    فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها / المكيدةَ
    في سياق الواقعيّ . وليس في وُسْعِ القصيدة
    أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
    ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
    لكني سأحلُمُ ،
    رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي ، كما أَنا
    واحداً من أَهل هذا البحر ،
    كفَّ عن السؤال الصعب : (( مَنْ أَنا ؟ …
    هاهنا ؟ أَأَنا ابنُ أُمي ؟ ))
    لا تساوِرُني الشكوكُ ولا يحاصرني
    الرعاةُ أو الملوكُ . وحاضري كغدي معي .
    ومعي مُفَكِّرتي الصغيرةُ : كُلَّما حَكَّ
    السحابةَ طائرٌ دَوَّنتُ : فَكَّ الحُلْمُ
    أَجنحتي . أنا أَيضاً أطيرُ . فَكُلُّ
    حيّ طائرٌ . وأَنا أَنا ، لا شيءَ
    آخَرَ /

    واحدٌ من أَهل هذا السهل …
    في عيد الشعير أَزورُ أطلالي
    البهيَّة مثل وَشْم في الهُوِيَّةِ .
    لا تبدِّدُها الرياحُ ولا تُؤبِّدُها … /
    وفي عيد الكروم أَعُبُّ كأساً
    من نبيذ الباعة المتجوِّلينَ … خفيفةٌ
    روحي ، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان /
    وفي الربيع ، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
    ستكتُبُ في بطاقات البريد : (( على
    يسار المسرح المهجور سَوْسَنَةٌ وشَخْصٌ
    غامضٌ . وعلى اليمين مدينةٌ عصريَّةٌ )) /

    وأَنا أَنا ، لا شيء آخَرَ …
    لَسْتُ من أَتباع روما الساهرينَ
    على دروب الملحِ . لكنِّي أسَدِّدُ نِسْبَةً
    مئويَّةً من ملح خبزي مُرْغَماً ، وأَقول
    للتاريخ : زَيِّنْ شاحناتِكَ بالعبيد وبالملوك الصاغرينَ ، ومُرَّ
    … لا أَحَدٌ يقول
    الآن : لا .

    وأَنا أَنا ، لا شيء آخر
    واحدٌ من أَهل هذا الليل . أَحلُمُ
    بالصعود على حصاني فَوْقَ ، فَوْقَ …
    لأَتبع اليُنْبُوعَ خلف التلِّ
    فاصمُدْ يا حصاني . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ

    أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ . فانتصِبْ
    أَلِفاً ، وصُكَّ البرقَ . حُكَّ بحافر
    الشهوات أَوعيةَ الصَدَى . واصعَدْ ،
    تَجَدَّدْ ، وانتصبْ أَلفاً ، توتَّرْ يا
    حصاني وانتصبْ ألفا ً ، ولا تسقُطْ
    عن السفح الأَخير كرايةٍ مهجورةٍ في
    الأَبجديَّة . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ ،
    أَنت تَعِلَّتي وأَنا مجازُكَ خارج الركب
    المُرَوَّضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفُرْ زماني
    في مكاني يا حصاني . فالمكانُ هُوَ
    الطريق ، ولا طريقَ على الطريق سواكَ
    تنتعلُ الرياحَ . أَُضئْ نُجوماً في السراب !
    أَضئْ غيوماً في الغياب ، وكُنْ أَخي
    ودليلَ برقي يا حصاني . لا تَمُتْ
    قبلي ولا بعدي عَلى السفح الأخير
    ولا معي . حَدِّقْ إلى سيَّارة الإسعافِ
    والموتى … لعلِّي لم أَزل حيّاً /

    سأَحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي .
    بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر
    الجفاف العاطفيِّ . حفظتُ قلبي كُلَّهُ
    عن ظهر قلبٍ : لم يَعُدْ مُتَطفِّلاً
    ومُدَلّلاً . تَكْفيهِ حَبَّةُ ” أَسبرين ” لكي
    يلينَ ويستكينَ . كأنَّهُ جاري الغريبُ
    ولستُ طَوْعَ هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
    يَصْدَأُ كالحديدِ ، فلا يئنُّ ولا يَحِنُّ
    ولا يُجَنُّ بأوَّل المطر الإباحيِّ الحنينِ ،
    ولا يرنُّ ّكعشب آبَ من الجفافِ .
    كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أَو زائدٌ
    عني كحرف ” الكاف ” في التشبيهِ
    حين يجفُّ ماءُ القلب تزدادُ الجمالياتُ
    تجريداً ، وتدَّثرُ العواطف بالمعاطفِ ،
    والبكارةُ بالمهارة /

    كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ أُولى
    الأغنيات رأيتُ آثارَ القطاة على
    الكلام . ولم أَكن ولداً سعيداً
    كي أَقولَ : الأمس أَجملُ دائماً .
    لكنَّ للذكرى يَدَيْنِ خفيفتين تُهَيِّجانِ
    الأرضَ بالحُمَّى . وللذكرى روائحُ زهرةٍ
    ليليَّةٍ تبكي وتُوقظُ في دَمِ المنفيِّ
    حاجتَهُ إلى الإنشاد : (( كُوني
    مُرْتَقى شَجَني أَجدْ زمني )) … ولستُ
    بحاجةٍ إلاّ لِخَفْقَةِ نَوْرَسِ لأتابعَ
    السُفُنَ القديمةَ . كم من الوقت
    انقضى منذ اكتشفنا التوأمين : الوقتَ
    والموتَ الطبيعيَّ المُرَادِفَ للحياة ؟
    ولم نزل نحيا كأنَّ الموتَ يُخطئنا ،
    فنحن القادرين على التذكُّر قادرون
    على التحرُّر ، سائرون على خُطى
    جلجامشَ الخضراءِ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ … /

    هباءٌ كاملُ التكوينِ …
    يكسرُني الغيابُ كجرَّةِ الماءِ الصغيرة .
    نام أَنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
    مُلْتَفّاً بحَفْنَةِ ريشِهِ الطينيِّ . آلهتي
    جمادُ الريح في أَرض الخيال . ذِراعِيَ
    اليُمْنى عصا خشبيَّةٌ . والقَلْبُ مهجورٌ
    كبئرٍ جفَّ فيها الماءُ ، فاتَّسَعَ الصدى
    الوحشيُّ : أنكيدو ! خيالي لم يَعُدْ
    يكفي لأُكملَ رحلتي . لا بُدَّ لي من
    قُوَّةٍ ليكون حُلْمي واقعيّاً . هاتِ
    أَسْلِحتي أُلَمِّعْها بمِلح الدمعِ . هاتِ
    الدمعَ ، أنكيدو ، ليبكي المَيْتُ فينا
    الحيَّ . ما أنا ؟ مَنْ ينامُ الآن
    أنكيدو ؟ أَنا أَم أَنت ؟ آلهتي
    كقبض الريحِ . فانهَضْ بي بكامل
    طيشك البشريِّ ، واحلُمْ بالمساواةِ
    القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
    الذين نُعَمِّرُ الأرضَ الجميلةَ بين
    دجلةَ والفراتِ ونحفَظُ الأسماءَ . كيف
    مَلَلْتَني ، يا صاحبي ، وخَذَلْتَني ، ما نفْعُ حكمتنا بدون
    فُتُوّةٍ … ما نفعُ حكمتنا ؟ على باب المتاهِ خذلتني ،
    يا صاحبي ، فقتلتَني ، وعليَّ وحدي
    أَن أرى ، وحدي ، مصائرنا . ووحدي
    أَحملُ الدنيا على كتفيَّ ثوراً هائجاً .
    وحدي أَفتِّشُ شاردَ الخطوات عن
    أَبديتي . لا بُدَّ لي من حَلِّ هذا
    اللُغْزِ ، أنكيدو ، سأحملُ عنكَ
    عُمْرَكَ ما استطعتُ وما استطاعت
    قُوَّتي وإرادتي أَن تحملاكَ . فمن
    أَنا وحدي ؟ هَبَاءٌ كاملُ التكوينِ
    من حولي . ولكني سأُسْنِدُ ظلَّّك
    العاري على شجر النخيل . فأين ظلُّكَ ؟
    أَين ظلُّك بعدما انكسرَتْ جُذُوعُك؟
    قمَّةُ
    الإنسان
    هاويةٌ …
    ظلمتُكَ حينما قاومتُ فيكَ الوَحْشَ ،
    بامرأةٍ سَقَتْكَ حليبَها ، فأنِسْتَ …
    واستسلمتَ للبشريِّ . أَنكيدو ، ترفَّقْ
    بي وعُدْ من حيث مُتَّ ، لعلَّنا
    نجدُ الجوابَ ، فمن أَنا وحدي ؟
    حياةُ الفرد ناقصةٌ ، وينقُصُني
    السؤالُ ، فمن سأسألُ عن عبور
    النهر ؟ فانهَضْ يا شقيقَ الملح
    واحملني . وأَنتَ تنامُ هل تدري
    بأنك نائمٌ ؟ فانهض .. كفى نوما ً!
    تحرَّكْ قبل أَن يتكاثَرَ الحكماءُ حولي
    كالثعالب : [ كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
    حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً حُبْلَى بسائلها ،
    دَمِ العُشْب المُقَطَّرِ . عِشْ ليومك لا
    لحلمك . كلُّ شيء زائلٌ . فاحذَرْ
    غداً وعشِ الحياةَ الآن في امرأةٍ
    تحبُّكَ . عِشْ لجسمِكَ لا لِوَهْمِكَ .

    وانتظرْ
    ولداً سيحمل عنك رُوحَكَ
    فالخلودُ هُوَ التَّنَاسُلُ في الوجود .
    وكُلُّ شيءٍ باطلٌ أو زائل ، أو
    زائل أو باطلٌ ]

    مَنْ أَنا ؟
    أَنشيدُ الأناشيد
    أم حِكْمَةُ الجامعةْ ؟
    وكلانا أَنا …
    وأَنا شَاعرٌ
    ومَلِكْ
    وحكيمٌ على حافّة البئرِ
    لا غيمةٌ في يدي
    ولا أَحَدَ عَشَرَ كوكباً
    على معبدي
    ضاق بي جَسَدي
    ضاق بي أَبدي
    وغدي
    جالسٌ مثل تاج الغبار
    على مقعدي

    باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
    كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ

    أَلرياحُ شماليَّةٌ
    والرياحُ جنوبيَّةٌ
    تُشْرِقُ الشمسُ من ذاتها
    تَغْرُبُ الشمسُ في ذاتها
    لا جديدَ ، إذاً
    والزَمَنْ
    كان أَمسِ ،
    سُدىً في سُدَى .
    ألهياكلُ عاليةٌ
    والسنابلُ عاليةٌ
    والسماءُ إذا انخفضت مَطَرتْ
    والبلادُ إذا ارتفعت أَقفرت
    كُلُّ شيء إذا زاد عن حَدِّهِ
    صار يوماً إلى ضدِّهِ .
    والحياةُ على الأرض ظلٌّ
    لما لا نرى ….

    باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
    كلُّ شيء على البسيطة زائلْ

    1400 مركبة
    و12,000 فرس
    تحمل اسمي المُذَهَّبَ من
    زَمَنٍ نحو آخر …
    عشتُ كما لم يَعِشْ شاعرٌ
    مَلكاً وحكيماً …
    هَرِمْتُ ، سَئِمْتُ من المجدِ
    لا شيءَ ينقصني
    أَلهذا إذاً
    كلما ازداد علمي
    تعاظَمَ هَمِّي ؟
    فما أُورشليمُ وما العَرْشُ ؟
    لا شيءَ يبقى على حالِه
    للولادة وَقْتٌ
    وللموت وقتٌ
    وللصمت وَقْتٌ
    وللنُّطق وقْتٌ
    وللحرب وقْتٌ
    وللصُّلحِ وقْتٌ
    وللوقتِ وقْتٌ
    ولا شيءَ يبقى على حالِهِ …
    كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ
    والبحرُ ليس بملآنَ ،
    لاشيءَ يبقى على حالِهِ
    كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموت
    والموتُ ليس بملآنَ ،
    لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ
    بعدي :
    (( سُلَيمانُ كانَ )) …
    فماذا سيفعل موتى بأسمائهم
    هل يُضيءُ الذَّهَبْ
    ظلمتي الشاسعةْ
    أَم نشيدُ الأناشيد
    والجامعةْ ؟

    باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
    كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ /…

    مثلما سار المسيحُ على البُحَيْرَةِ ،
    سرتُ في رؤيايَ . لكنِّي نزلتُ عن
    الصليب لأَنني أَخشى العُلُوَّ ،ولا
    أُبَشِّرُ بالقيامةِ . لم أُغيِّرْ غَيْرَ
    إيقاعي لأَسمَعَ صوتَ قلبي واضحاً .
    للملحميِّين النُّسُورُ ولي أَنا : طوقُ
    الحمامةِ ، نجمةٌ مهجورةٌ فوق السطوح ،
    وشارعٌ مُتَعرِّجُ يُفْضي إلى ميناءِ
    عكا - ليس أكثرَ أَو أَقلَّ -
    أُريد أَن أُلقي تحيَّاتِ الصباح عليَّ
    حيث تركتُني ولداً سعيدا [ لم
    أَكُنْ ولداً سَعيدَ الحظِّ يومئذٍ ،
    ولكنَّ المسافةَ، مثلَ حدَّادينَ ممتازينَ ،
    تصنَعُ من حديدٍ تافهٍ قمراً]
    - أَتعرفني ؟
    سألتُ الظلَّ قرب السورِ ،
    فانتبهتْ فتاةُ ترتدي ناراً ،
    وقالت : هل تُكَلِّمني ؟
    فقلتُ : أُكَلِّمُ الشَبَحَ القرينَ
    فتمتمتْ : مجنونُ ليلى آخرٌ يتفقَُّّد
    الأطلالَ ،
    وانصرفتْ إلى حانوتها في آخر السُوق
    القديمةِ…
    ههنا كُنَّا . وكانت نَخْلَتانِ تحمِّلان
    البحرَ بعضَ رسائلِ الشعراءِ …
    لم نكبر كثيراً يا أَنا . فالمنظرُ
    البحريُّ ، والسُّورُ المُدَافِعُ عن خسارتنا ،
    ورائحةُ البَخُور تقول : ما زلنا هنا ،
    حتى لو انفصَلَ الزمانُ عن المكانِ .
    لعلَّنا لم نفترق أَبداً
    - أَتعرفني ؟
    بكى الوَلَدُ الذي ضيَّعتُهُ :
    (( لم نفترق . لكننا لن نلتقي أَبداً )) …
    وأَغْلَقَ موجتين صغيرتين على ذراعيه ،
    وحلَّّق عالياً …
    فسألتُ : مَنْ منَّا المُهَاجِرُ ؟ /
    قلتُ للسّجَّان عند الشاطئ الغربيّ :
    - هل أَنت ابنُ سجّاني القديمِ ؟
    - نعم !
    - فأين أَبوك ؟
    قال : أَبي توفِّيَ من سنين.
    أُصيبَ بالإحباط من سَأَم الحراسة .
    ثم أَوْرَثَني مُهمَّتَهُ ومهنته ، وأوصاني
    بان أَحمي المدينةَ من نشيدكَ …
    قُلْتُ : مُنْذُ متى تراقبني وتسجن
    فيَّ نفسَكَ ؟
    قال : منذ كتبتَ أُولى أُغنياتك
    قلت : لم تَكُ قد وُلِدْتَ
    فقال : لي زَمَنٌ ولي أَزليَّةٌ ،
    وأُريد أن أَحيا على إيقاعِ أمريكا
    وحائطِ أُورشليمَ
    فقلتُ : كُنْ مَنْ أَنتَ . لكني ذهبتُ .
    ومَنْ تراه الآن ليس أنا ، أنا شَبَحي
    فقال : كفى ! أَلسْتَ اسمَ الصدى
    الحجريِّ ؟ لم تذهَبْ ولم تَرْجِعْ إذاً .
    ما زلتَ داخلَ هذه الزنزانة الصفراءِ .
    فاتركني وشأني !
    قلتُ : هل ما زلتُ موجودا ً
    هنا ؟ أَأَنا طليقٌ أَو سجينٌ دون
    أن أدري . وهذا البحرُ خلف السور بحري ؟
    قال لي : أَنتَ السجينُ ، سجينُ
    نفسِكَ والحنينِ . ومَنْ تراهُ الآن
    ليس أَنا . أَنا شَبَحي
    فقلتُ مُحَدِّثاً نفسي : أَنا حيٌّ
    وقلتُ : إذا التقى شَبَحانِ
    في الصحراء ، هل يتقاسمانِ الرملَ ،
    أَم يتنافسان على احتكار الليل ؟ /

    المقطع قبل الأخير
    كانت ساعَةُ الميناءِ تعمَلُ وحدها
    لم يكترثْ أَحَدٌ بليل الوقت ، صَيَّادو
    ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
    الموجَ . والعُشَّاقُ في الـ” ديسكو ” .
    وكان الحالمون يُرَبِّتُون القُبَّراتِ النائماتِ
    ويحلمون …
    وقلتُ : إن متُّ انتبهتُ …
    لديَّ ما يكفي من الماضي
    وينقُصُني غَدٌ …
    سأسيرُ في الدرب القديم على
    خُطَايَ ، على هواءِ البحر . لا
    امرأةٌ تراني تحت شرفتها . ولم
    أملكْ من الذكرى سوى ما ينفَعُ
    السَّفَرَ الطويلَ . وكان في الأيام
    ما يكفي من الغد . كُنْتُ أصْغَرَ
    من فراشاتي ومن غَمَّازتينِ :
    خُذي النُّعَاسَ وخبِّئيني في
    الرواية والمساء العاطفيّ /
    وَخبِّئيني تحت إحدى النخلتين /
    وعلِّميني الشِعْرَ / قد أَتعلَّمُ
    التجوال في أنحاء ” هومير ” / قد
    أُضيفُ إلى الحكاية وَصْفَ
    عكا / أقدمِ المدنِ الجميلةِ ،
    أَجملِ المدن القديمةِ / علبَةٌ
    حَجَريَّةٌ يتحرَّكُ الأحياءُ والأمواتُ
    في صلصالها كخليَّة النحل السجين
    ويُضْرِبُونَ عن الزهور ويسألون
    البحر عن باب الطوارئ كُلَّما
    اشتدَّ الحصارُ / وعلِّميني الشِعْرَ /
    قد تحتاجُ بنتٌ ما إلى أُغنية
    لبعيدها : (( خُذْني ولو قَسْراً
    إليكَ ، وضَعْ منامي في
    يَدَيْكَ )) . ويذهبان إلى الصدى
    مُتَعانِقَيْنِ / كأنَّني زوَّجتُ ظبياً
    شارداً لغزالةٍ / وفتحتُ أبوابَ
    الكنيسةِ للحمام … / وعَلِّميني
    الشِعْرَ / مَنْ غزلتْ قميصَ
    الصوف وانتظرتْ أمام الباب
    أَوْلَى بالحديث عن المدى ، وبخَيْبَةِ
    الأَمَلِ : المُحاربُ لم يَعُدْ ، أو
    لن يعود ، فلستَ أَنتَ مَن
    انتظرتُ … /

    ومثلما سار المسيحُ على البحيرة …
    سرتُ في رؤيايَ . لكنِّي نزلتُ عن
    الصليب لأنني أَخشى العُلُوَّ ولا
    أُبشِّرُ بالقيامة . لم أُغيِّر غيرَ إيقاعي
    لأَسمع صوتَ قلبي واضحاً …
    للملحميِّين النُسُورُ ولي أَنا طَوْقُ
    الحمامة ، نَجْمَةٌ مهجورةٌ فوق السطوح ،
    وشارعٌ يُفضي إلى الميناء … /
    هذا البحرُ لي
    هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
    هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
    من خُطَايَ وسائلي المنويِّ … لي
    ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
    شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
    وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
    والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
    لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
    طارت عن الأسوار … لي
    ما كان لي . وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
    انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
    والملْحُ من أَثر الدموع على
    جدار البيت لي …
    واسمي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
    بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
    ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
    حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
    ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
    الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
    واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
    ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
    دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
    دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
    وهذا الاسمُ لي …
    ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
    جَسَدي المُؤَقَّتُ ، حاضراً أم غائباً …
    مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
    لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
    والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ ،
    يشربني على مَهَلٍ ، ولي
    ما كان لي : أَمسي ، وما سيكون لي
    غَدِيَ البعيدُ ، وعودة الروح الشريد
    كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
    وكأنَّ شيئاً لم يكن
    جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
    والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
    ومن أَبطالِهِ …
    يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
    هذا البحرُ لي
    هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
    واسمي -
    وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
    لي .
    أَما أَنا - وقد امتلأتُ
    بكُلِّ أَسباب الرحيل -
    فلستُ لي .
    أَنا لَستُ لي
    أَنا لَستُ لي …

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    من أروع ما غنى درويش

    ايها المارون في الكلمات العابرة
    احملوا أسماءكم .. و انصرفوا
    وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا .. و انصرفوا
    وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
    و خذوا ما شئتم من صور،كي تعرفوا
    انكم لن تعرفوا
    كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء (f)

    ***
    ايها المارون بين الكلمات العابرة
    منكم السيف - ومنا دمنا
    منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
    منكم دبابة اخرى- ومنا حجر
    منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
    وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
    فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
    وادخلوا حفل عشاء راقص..و انصرفوا
    وعلينا ، نحن ، ان نحرس ورد الشهداء
    و علينا ، نحن ، ان نحيا كما نحن نشاء(f)

    ***
    ايها المارون بين الكلمات العابرة
    كالغبار المر مروا اينما شئتم ولكن
    لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
    خلنا في ارضنا ما نعمل
    و لنا قمح نربيه و نسقيه ندى اجسادنا
    و لنا ما ليس يرضيكم هنا
    حجر.. او خجل
    فخذوا الماضي ... اذا شئتم الى سوق التحف
    و اعيدوا الهيكل العظمي للهدهد ، ان شئتم
    على صحن خزف لناما ليس يرضيكم ، لنا المستقبل ولنا في ارضنا ما نعمل(f)

    ***
    ايها المارون بين الكلمات العابره
    كدسوا اوهامكم في حفرة مهجورة ،.. وانصرفوا
    واعيدوا عقرب الوقت الى شرعية العجل المقدس
    !او الى توقيت موسيقى مسدس
    فلنا ما ليس يرضيكم هنا ،... فانصرفوا
    ولنا ما ليس فيكم ....وطن ينزف و شعبا ينزف
    وطنا يصلح للنسيان او للذاكرة
    ايها المارون بين الكلمات العابرة
    آن ان تنصرفوا ...
    وتقيموا اينما شئتم ولكن لا تقيموا يننا
    آن ان تنصرفوا ......
    ولتموتوا اينما شئتم ولكن لا تموتو بيننا
    فلنا في ارضنا مانعمل
    ولنا الماضي هنا ..
    ولنا صوت الحياة الاول
    ولنا الحاضر .. والحاضر .... والمستقبل
    ولنا الدنيا هنا.... و الاخرة
    فاخرجوا من ارضنا
    من برنا ..من بحرنا
    من قمحنا ..من ملحنا ..من جرحنا
    من كل شيء ......... واخرجوا
    من ذكريات الذاكرة .....
    ايها المارون بين الكلمات العابرة ...

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    حترقَ المكتب،قذيفة بحرية جعلته مخزناً للفحم
    إحترق المكتب قبل وصولنا بساعات.أين نجد
    مكاناًآخر لنتابع الثرثرة،
    مهمتنا الخالدة في الحرب وفي الهدنة هي الثرثرة
    أين نتابعها:نخرج،أم لا نخرج؟
    فقد حسب المثقفون المنصهرون في ورشة الصمود الرائعة
    انصهاراً مدهشاً أن هذا السؤال هو سؤالهم.
    وحسبوا أن لهم حقِّ الفيتو على القرار السياسي.
    وكان بعضهم يعتقد أن نشرة"المعركة"هي التي ستحدد مصير المعركة.
    وقرروا أن هذا المنبر الشجاع هو الذي سيشهد للتاريخ أن المثقفين
    هم الذين يقودون انعطاف التاريخ.ماأجملهم!ما أجملهم!
    الساعة الحادية عشرة وعشرون ألف قذيفة وثلاثون ثانية،
    خرجنا من المكتب المُحترِق الى فضضاء مشتعل.
    السماء تعانق الأرض عناقاً دخانياً،ـ
    تتدلى مُثقَلة بالرصاص المصهور،
    برمادي داكن لا يفتح انغلاقه العدمي سوى لون برتقالي
    تَبُولُه الطائرات الفضية المائلة الى البياض الوهج.
    طائرات خفيفة رشيقة تثب على هواء آمن كأن فيه أخاديد.
    .................................
    قال"ز"هيا بنا.قلت:الى أين؟قال:نبحث عن أي شيئ
    عن غداء مثلاً،ما الحالة؟زفت.
    شروط الخروج مذلة،ونحن نناور،ونحاول أن نشتري الوقت بأي ثمن؟
    بأي ثمن..بمدافع مضادة للطائرات نفدت ذخيرتها،
    ببطولة شباب حيَّروا العلَم العسكري وحيروا الجنون.إلى متى؟
    الى أن يحدث شيئ ما لن يحدث.
    لم يحدث تغيير.مازلنا وحدنا.هل سيدخلون بيروت؟
    لن يدخلوا بيروت،سيتكبدون خسائر لا يتحملون نتائجها.
    ولكنهم يحاولون قضم أطراف المدينة،
    حاولوا عند المتحف وفشلوا.
    معنويات الشباب عالية،عالية جداً.
    إنهم أشباه شياطين، يائسون من النجدة
    يائسون من تحرُّك العالم العربي
    يائسون من التوازن الاستراتيجي،
    ولذلك كله يُقاتلون بجنون.
    هل يبلغهم حديث الخروج؟
    نعم يبلغهم ولا يصدقون.يقولون:تلك مناورة،ويقاتِلون
    ،ويعرفون أن هذا الصمت الذي يتوِّج العالم يعطيهم منصَّة الكلام.
    دمهم وحدهم هو الذي يتكلم في هذا الزمن.
    وماذا ستكتب في المعركة أمام حديث المفاوضات والخروج؟
    ندعو الى القتال والصمود،
    ندعوا الى القتال والصمود:
    بيروت من الخارج:
    محاصرةبالدبابات الاسرائيلية وبالشلل العربي الرسمي
    بيروت غارقة في الظلام والابتزاز.بيروت تعطش.
    ولكن بيروت الداخل،
    بيروت من الداخل تُعِدُّ حقيقتها الأخرى،
    تمتلك ارادتها
    وترفع بنادقها
    لتحافظ على إشراقة معانيها:عاصمة الأمل العربي.
    بشعار إنقاذ بيروت الجهنمي السلس القاتل كالسم الناعم،
    يُراد لهذا الأمل
    أن ينتحر في مسادة عربية منقولة عن الذاهبين الى انتحارهم في أوج انتصارهم.
    واللفظ الوحيد الذي يضعه مبتكرو لفظة"إنقاذ"هو:
    الاستسلام،تاريخ من المعاني المُسقيَّة بالدم
    استسلام كامل الغضب استسلام كل السلاح.استسلام بلا تكاليف.
    ولكن هل يعرف خبراء صناعة الإبتزاز ما معنى هذا اليأس ؟
    ما نتاج هذا اليأس؟
    لا نقول إبتزازامضاداً،
    ولا نُهدّد بسقوط الهيكل علينا وعلى أعدائنا وعلى حلفائنا.
    ولكننا نَشهر:
    حريتنا الوحيدة
    وشرطنا الوحيدعلى مائدة المفاوضات:أن تُقاتل.
    .....................................
    بيروت ليست رهينة،ونحن خلف متاريسنا لانُرهن حياتنا لغير المستقبل،
    ولتَجدُّد دورة الأيام كلها.
    إذ لا خيار لنا إلا الإحتفاظ بشرط حياتنا الحاضر:السلاح.
    السلاح الذي يعني تجريدنا منه تجريدنا من أداة الوجود،
    ومن حماية شعلة أوقدناها بغابة من أشجار دمائنا،
    ومن الاستمرار في إيقاظ القارة العربية النائمة تحت قمع الأنظمة.
    إن صمودنا في قلعة بيروت غير القابلة للتدمير هو الأداة الوحيدة
    لتحريك العملاق العربي المتمدِّد ما بين شاطئي محيطين.
    وهو الأفق الوحيد المطلُّ من:
    فوهة بندقية ومن ثقب جزمة مقاتل ومن جرح يضيئ هذا العصر الأسود.
    هكذا..هكذا نفك الحصار عن بيروت وعن غضب الملايين..
    وهكذا تكون صورة بيروت من الداخل نقيض صورة بيروت من الخارج...
    وهكذا كنَّا نكتب،فماذا نكتب الآن؟
    قال"ز"بلا تردد:الكلام إياه.
    وماهو رأي الناس،أهل بيروت؟
    قال:مع الصمود،
    قلت:مع الصمود حتى الخروج...هل تستطيع أن تتجاهل ذلك؟
    قال:لا نستطيع ان نتجاهل ذلك.ولكن ما العمل؟ما العمل؟

    أكتفي بهذا القدر من هذا العمل المدهش لدرويش ( هوميروس العرب )

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    لماذا أرى الطاووس العجوز يدبُ على عصا من عاج مدججاً بمسدسين
    مترعاً بالزهور،ثملاً بالهجاء،مفتوناً ببصاق مُتَّوج؟
    لماذا أرى الطاووس العجوز سارق الريش الملون،
    يرشني بابتسامة حاقنة،ويغمد خنجرا في نخاعي؟؟ً
    لماذا أرى الطاووس العجوز،يريم عليَّ رائحة العرق والعرق
    ويحاول أن يُقبِّل حذائي،ليدس لي قبرا تحت الحذاء؟
    لماذا أرى الطاووس العجوز،يشرئِّبُّ على المعقد والجدار،
    ليطلُّ على قلبي ويسرق حزن الليمون،ويهرِّبه الى قبطان
    سفينة لاتصل،ظنها سفينة نوح ولم تصل؟
    لماذا أرى الطاووس العجوز،مزداناً بنعل حصان قتيل ظنًّها وسام شرف؟
    لماذا ارى الطاوووس مدججا بمسدسين:
    واحدِ لقتلي وواحد لقفاه الجَشِع؟
    لماذا ارى الطاووس العجوز؟
    لماذا ارى الطاووس؟
    لماذا أرى؟
    لماذا؟

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    لقد وجد بعض المثقفين وقت الحصار ملائما لتصفية حساباتهم الصغيرة.
    فشرعوا أقلامهم السامة في صدور زملائهم.
    وعبثا كنا نصرخ:ما لكم وهذه الصغائر،
    فليس أحد من الكتاب هو الذي يحاصر بيروت،
    وليس تقصيرهم أو هروبهم هو الذي يهيل البنايات على سكانها
    وفي أسوأ الأحوال ليست كتابتكم هذه أدباً.
    وليست مدافع فعَّالة مضادة للطائرات في أفضل الأحوال.
    كلا_يقولون:هذا هو المحك الأول والأخير لثورية الكاتب والشاعر.
    فإما أن تولد القصيدة الآن،وإما أن تُحرَم من حقها في الولادة.
    وكنا نسخر:لماذا أذنتم لهوميروس بكتابة الإلياذة والأوذيسة؟
    ولماذا سمحتم لأنجيليوس ويوربيدوس وأرسطوفان وتولستوي وغيرهم؟
    ليس ردِّ الفعل واحداً_أيها الكتّاب فمَن يستطيع الكتابة الآن فليكتب.
    وإذا أذنتم لي بأن أبدي رأيي دون إتهام فسأعبِّر عن ظنِّي بأن
    الجرحى والعطاش والباحثين عن الماء والخبز والملجأ
    لا يطالبوكم بالغناء والمقاتلين لا يكترثون بغنائكم.
    غَنّوا إذا شئتم أو فاصمتوا إذا شئتم.فنحن هامشيون في الحرب.
    وفي وسعنا أن نُقدِّم خدمات أخرى للناس فإن تنكة من الماء تساوي وادي عبقر.

    المطلوب منًّا الآن هو الفاعلية الانسانية لا الجمالية الإبداعية.
    فلتوقِفوا عمليات الاغتيال:وماذا لو انهارت أعصاب الناقد وخرج من بيروت؟
    وماذا لو عجز المسرحي عن إجتياز الشارع من الخوف؟
    وماذا لو أضاع الشاعر إيقاعه قليلاً؟
    ألأن الناقد لم يُعجَب برواياتكم وقصائدكم تضربون عليه الحصار وتقصفونه بالتشهير؟
    لقد اعتادت الأوساط الأدبية العربية أن تطرح سؤال الشعر
    في سياق الحرب المندلعة استجابة للراسب الثقافي فينا
    الذي يربط صيحة الرحب بحماسة الشعر،
    باعتبار الشاعر معلقاً على الأحداث،حاضّا على الجهاد،
    او مراسلا جربيا.
    في كل معركة يقولون:أين القصيدة؟
    لقد اختلط مفهوم الشعر السياسي بمفهوم الحدث،معزولا عن السياق التاريخي..
    وفي هذه اللحظة المحددة،حيث تحرث الطائرات أجسادنا،
    يطالب المثقفون المتحلقون حول جسد غائب بقصيدة
    تعادل قوة الغارة أو تقلب موازين القوى على الأقل.
    لإذا لم تولد القصيدة"الآن فمتى تولد؟
    وإذا وُلِدت فيما بعد فما هي قيمتها الآن.
    سؤال بسيط ومعقَّد يحتاج الى جواب مركب
    كأن يتاح لنا القول إن القصيدة تولد الآن:
    تولد في مكان ما، في لغة ما،في جسد ما
    ولكنها لا تصل الى الحنجرةوالورق.
    سؤال بريئ يحتاج الى جواب بريئ لولا
    أنه مليئ في هذه الجلسة بالرغبة في اغتيال الشاعر
    الذي جرؤ على الإعلان بأنه يكتب صمته.
    ومن المثير للمرارة أن تنتزع من زمن الغارات هذا الوقت للثرثرة
    وللدفاع عن دور الشاعر الذي يستمد خاصيته من
    تاريخ كتابة الشعر في علاقته بتطور الواقع،
    أمام لحظة يتوقف فيها كل شيئ عن الكلام،
    لحظة تصوغ فيها الملحمة الشعبية تاريخها وإبداعها الجماعي.
    بيروت هي الكتابة الإبداعية المثيرة.
    شعراؤها الحقيقيون ومنشدوها منهم مقاتلوها وناسها
    الذين لا يحتاجون الى ترفيه وتشجيع على عودمقطوع الأوتار.
    هم التأسيس الحقيقي لكتابة ستبحث طويلا وطويلا عن المعادل اللغوي لبطولتهم وحياتهم المدهشة.
    فكيف تستطيع الكتابة الجديدة،المحتاجة الى كسل أن تتبلور وتتشكل
    في اوج معركة لها هذا الايقاع الصاروخي؟
    وكيف يستطي عالشعر التقليدي وكل شعر تقليدي في هذه اللحظة
    أن يصف هذا الشعر الجديد المختمر في بطن الزلزال؟
    صبراًأيها المثقفون!!فسؤال الحياة والموت المهيمن الآن،
    سؤال الإرادة التي تدفع بأسلحتها كلها في هذه الساحة،

    سؤال الوجود الذي يصوغ شكله المادي والألوهي،
    أهم من السؤال الأخلاقي عن دور الشعر والشاعر.
    ومن اللائق أن تحترم الرهبة التي تنشرها هذه الساعات،
    ساعات انتقال الوجود الانساني من ضفة الى أخرى ومن طور الى طور.
    ومن اللائق أن يعرف الشعر القديم كيف يصمت،
    في خشوع أمام حضرة هذا المولود الجديد.
    وإذا كان من الضروري أن يتحول المثقفين أو بعضهم الى قنَّاصة ،
    فليحاولوا قنص مفاهيمهم القديمة وأسئلتهم القديمة وأخلاقهم القديمة
    نحن الآن لا نصف بقدر ما نوصف ،نحن نولد تماماً أو نموت تماما..

    ولكن صديقنا الكبير الباكستاني فايز أحمد فايز كان مشغولاً بسؤال آخر:
    أين الرسامون؟
    قلت:أيُّ رسامون يا فايز؟
    قال:رسَّامو بيروت
    قلت:ماذا تريد منهم؟
    قال:أن يرسموا هذه الحرب على جدران المدينة
    قلت:ماذا دهالك يا فايز،ألا ترى سقوط الجدران؟

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    سألنا"ف":الى أين ستخرجان؟
    قال"ي"الى عدن..
    وأنت؟سألني
    قلت:لا اعرف.
    صمت صمت من حديد.كنا ثلاثة،فصرنا واحد في ما
    ينهار حولنا من عالم،كأننا نعتني بمواد قابلة للانكسار
    ونحن نستعدُّ لاستيعاب عملية انتقال الواقع برمته الى
    ذكريات،نحن الذكريات.
    ابتداءً من هذه اللحظة سيتذكر بعضنا بعضاً كما نتذكر
    عالماً بعيداً تلاشى في زرقة صارت أشد زرقة مما كانت عليه
    سنفترق في أوج اللهفة.
    ونحن الثلاثة نعرف الحقيقة:سنخرج ونعرف قسوة أقسى
    لا يجرؤ أحد على أن يُرى وهو يراها:
    إن الناس معنا لأننا خارجون.
    قلت:لن أخرج،لأنني لاأعرف الى أين أخرج،
    ولأنني لاأعرف الى أين أخرج فلن أخرج.
    وسألت"ف"وأنت؟
    قال:أنا باق،أنا لبناني،وهذه بلادي
    فإلى أين أذهب!!
    خجلت من سؤالي ومن فرط ما صارت بيروت نشيدي...ونشيد مَن لا وطن له
    خجلت من شدة إلتباس الفكرة.
    وفي فندق الكومودور وهو معقل الصحفيين الأجانب،
    يستجوبني كاتب صحفي أمريكي:ماذا تكتب أيها الشاعر في الحرب؟
    أكتب صمتي
    هل تعني أن للكلام مدافع؟
    نعم،صوتها أعلى من أي صوت
    ماذاتفعل إذن؟
    أدعو الى الصمود
    وهل ستنتصرون في هذه الحرب؟
    لاالمهم أن نبقى.بقاؤنا إنتصار
    وماذا بعد ذلك؟
    سيبدأ زمن جديد
    ومتى تعود لكتابة الشِعر؟
    حين تسكت المدافع قليلاَ
    حين أُفجر صمتي المليئ بجميع هذه الأصوات
    حين أجد لغتي الملائمة
    أليس لك من دور؟
    لا،لا دور لي في الشِعر الآن،
    دَوْري خارج القصيدة،
    دوري أن أكون هنا مع المواطنين ومع المقاتلين.

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    جاء صديقنا"ف"ليساعدني على رفع الشاعر عن عبارة سقطت تحته:
    ياأخي مش معقول.
    هذا مش معقول.
    هذا شيئ غيرمعقول.
    إشتبك مع العبارة.
    خنقها وتكوم فوقها.
    ساعِدْني يا"ف"ساعدني على تخليص العبارة من تأتأة"ي"
    نضحك ونقهقه الى حدّ أزعجْنا معه فتاة البيانو.
    قلنا لها:ليس هذا وقت البيانو.ولا الضحك،ولا الشعر.
    هذا وقت الطائرات،وهذا وقت الحلزون.
    ................................
    هل تكتبان؟سألنا"ف"
    "ي"يكتب يومياً..وقرأ لنا احدى لقطات الكاميرا
    الداخلية الحساسة التي لا يتخلى عنها.
    وأنت؟سألاني.
    قلت:إني أختزن حتى الاختناق،وأثير سخرية
    زملائي القائلين:ما جدوى القصيدة..
    ما جدواها بعدما تنتهي الحرب.
    ولكنني اصرخ في لحظة لا يصل فيها الصراخ.
    ويبدو لي أن على اللغة ألا تزج بنفسها في معركة
    أصوات غير متكافئة.صوتك الخافت يا"ي"أفضل.
    ولكن ماذا تكتب؟

    قلت أتأتئ صرخة:
    أشلاؤنا اسماؤنا..لا..لامفَرُّ
    سقط القناع عن القناع عن القناع
    سقط القناع
    لا إخوة لك يا أخي،لاأصدقاء
    يا صديقي،لا قلاع
    لا الماء عندك،لا الدواء لا السماء ولا الدماء
    ولا الشراع ولاالأمام ولا الوراء
    حاصر حصارك ...لا مفرُّ
    سقطت ذراعك فالتقطها
    واضرِبْ عدوك..لا مفر
    وسَقَطْتُ قربك،فالتقطني
    واضرب عدوك بي،فأنت الآن حرٌّ
    حرٌّ
    وحرُّ...
    قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
    فاضرب بها.اضرب عدوك..لا مفرُّ
    أشلاؤنا أسماؤنا..أسماؤنا أشلاؤنا
    حاصر حصارك بالجنون
    وبالجنون
    وبالجنون
    ذهب الذين تحبهم،ذهبوا
    فإما أن تكون
    أولا تكون
    سقط القناع عن القناع
    سقط القناع،ولا أحد
    الاك في هذا المدى المفتوح للأعداء وانسيان
    فاجعل كل متراس بلد
    لا..لاأحد
    سقط القناع
    عَرَبٌ أطاعوا رومَهم
    عرب وباعوا روحهم
    عرب..وضاعوا
    سقط القناع عن القناع
    سقط القناع

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    قريبا من فنق الكافالييه نظرت الى ساعتي،إنها الثامنة،
    هل صحاالشاعر"ي"من النوم؟
    مَن يستطيع النوم تحت هذه القطعان من الطائرات؟
    أثار فضولي أن أعرف كيف يقدر الشاعر على الكتابة،
    كيف يجد لغة لهذه اللغة،
    و(ي)هو الشاعر صاحب القصيدة اليومية المرئية،
    المتأنية،القادرة على التقاط تفاصيل دالة على جوهر إنساني.
    هو الشاعر القادر على تحريك الفرح من الركام وعلى إيقاظ الدهش،
    وهو حين يكتب يُغنيني عن الكتابة،
    لأنه يقول نيابة عنَّا ما نحس بالرغبة في قوله.
    يملأني بشجن يوقظ صفاؤه فيَّ مادة الفرح،
    ومادام هذا الشعر يكتب فلاأجد دليلاً ملموساً على مأزق الشعر.
    وهو باختصار شاعري التقيته أول مرة في بغداد وسرعان ما حاول إغتيالي،
    لأنه شرب ما تُيسره المائدة من كحول لا تتجانس إلا لتتشاكس،
    فهو لا يعترف بفروق الكحول ،الكحول هي الكحول،ما الفرق؟
    بيرة،ويسكي،نبيذ،عرق، كلُّها تُجنِّنْ.
    وحين كان يوصلني في آخر الليل بسيارته الى فندق بغداد،
    كان يحاول دفع السيارة بِمَن فيها للسباحة في نهر دجلةلولا استغاثة الصاحية.
    قال ليُهدِّئ من روعنا:لا تخافوا فأنا الآن موظف في دائرة الري،نعم،الري
    وأخيراً انتقل من دائرة الري في بغداد الى دائرة الدم في بيروت،
    كُنَّا نُحيي أمسيات مشتركة في بيروت ودمشق،
    وفي صور منذ أسابيع في إحدى قواعد المقاتلين رأيته ليلة أمس قرب فندق بلازا.
    تَعرَّف عليّ وسط الظلام الكحلي بواسطة مصباح يدوي،
    فصرخ بي:كيف تسير وحدك بلا حراسة؟
    قلت:ومتى سرت بحراسة.قال:لماذا تقف هنا؟
    قلت:أنتظر سيارة أجرى لأذهب إلى غرفة العمليات
    .................................................. ..............
    أنتظرالشاعر في ردهة الفندق،
    ولكن،لماذا يطلع الحلزون في وجهي؟
    حلزون طويل
    حلزون لا يكف عن استعراض رخاوته.
    يلعب على المقاعد والجدران.
    يدلق لعابه الأخضر على فتاة تعزف البيانو
    حلزون يبكي\حلزون يضحك
    حلزون يسكر يدخل الشاشة.
    يخرج من الشاشة.
    يُعلِّق بصره الزائغ على اللاشيئ
    حلزون لا ينظر.يتهاوى.يتمايل.
    يتأود.يتنهد.يتخلَّع.يتسكع.
    حلزون يسير على قدمين من مطاط
    يتأرجح.
    ولماذا يطلع الحلزون في وجهي هذا الصباح؟
    اللهم إحفظنا من بشاعة المنظر.
    ..........................
    ينزل الشاعر من غرفته متكئاً على جرادة..
    أفّ...أهذا أيضاً.ماالذي جاء بي الى هذا المكان.
    نتعانق.أهزّ على كتفيه لأنفض عنه سمات النعاس،
    كيف حالك؟متشائم.هذا يوم عجيب يا أخي.
    مش معقول يا أخي.لم يتوقف القصف ثانيةً.
    إنهم يحرثون المدينة.أين كنت؟في شقتي..مجنون..
    مجنون ياأخي،كيف تنام هناك؟غداً سأنام هنا...ولكن
    أينقصنا أن يُسفر القصف عن حلزون وجرادة؟
    ماذا تعني؟لا أعني شيئا؟؟
    عشر خطوات الى الأمام،وتسع خطوات الى الوراء.
    النتيجة خطوة الى الأمام ..حسناً!!هذا حسن..
    حطَّت جرادةأخرى خائفة على حضني.
    ارتدَت عِفَّة الخوف من الطائرات لتحتك بما يُحَك.
    قلت لها مازحاً و ناصحاً:هذا يوم لا نهاية له.
    عندهم ألف طائرة تستطيع القيام بعشرة آلاف غارة،
    واذا واصلت الرد على كل غارة بهذا الاحتكاك،فإني سأجّف
    سأصير رجلاً مثموداً!!وألتَفِتُ الى الشاعر:قل لي
    لماذا تندلع شهوات الفتيات في أسوأ الحالات؟
    أهذا هو وقت الحب،إنه وقت الشهوة الخاطفة.
    يتعاون جسدان عابران على صدِّ موت عابر بموت آخر هو موت العسل.

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    لم أرَ بيروت ن قبل في مثل هذا النوم الصباحي،
    ولأول مرة أرى الأرصفة،أرصفة واضحة،
    ولأول مرة أرى الشجر،
    شجراً واضحاً،بجذوع وأغصان وأروراق دائمة الخضرة،
    هل بيروت جميلة في حد ذاتها؟
    كانت الحركة والحوار والزحام وضوضاء التجارة تخفي هذه الملاحظة.
    وتحولَّت بيروت من مدينة الى مفهوم ومعنى ومصطلح ودلالة.
    كانت تطبع الكتب،وتوزع الصحف،
    وتعقد الندوات والمؤتمرات لتعالج قضايا العالم ولا تنتبه الى ذاتها.
    كانت تمدِّ لسان السخرية لما حولها من رمل وقمع،كانت ورشة حرية.
    وكانت جدرانها تحمل موسوعة العالم الحديث.
    وكانت تصنع الملصقات.
    وقدتكون هي أول مدينة في العالم طورَّت صناعة الملصقات
    الى مستوى الجريدة اليومية ،
    ولعل قدراتها التعبيرية المتشكلة من:
    تنوع،وموت،وفوضى،وحرية،وغربة،وهجرة،وشعوب،
    قد إمتلأت وفاضت عن جميع أشكال التعبير المعروفة،
    فوجدَت في الملصق ما يستوعب فائض التعبير عن اليومي،
    حتى أصبح الملصق لفظة دارجة في القصائد والقصص ليشير الى خصوصية.
    وجوه على الجدران،شهداء طازجون يخرجوت للتو من الحياة ومن المطبعة،
    موت يعيد إنتاج موته،شهيد يزُّج وجه شهيد آخر عن الحائط ويجلس مكانه
    الى أن يزيحه شهيد جديد أو مطر،وشعارات تمحو شعارات،
    تتبدل،وترتب أولويات الحماسة والواجبات الأممية اليومية،
    كل ما يحدث في العالم يحدث هنا،إنعكاسا تارة،ونموذجا تارة.
    وقد يتشاجر متفقان في مقهى باريسي
    فينقلب شجارهما الكلامي الى إشتباك مسلَّح هنا،
    لأن على بيروت أن تتضامن مع كل حركة جديدة ونظرية جديدة.
    سينما ثورات سريعة الدوران.فيديو للتطبيق المباشر.
    القائد الجديد أو النجم الجديد في أي مجال مرشح ليكون قائدها أو نجمها.
    تطفح جدرانها بالصور والكلمات،ويلهث المارَّة وراء وعي يتبدَّل
    لذا فإن أعمار النجوم والقادة هنا قصيرة،
    لا لأن الجمهور هنا سريع الضجر،فالجمهور ليس هنا،
    بل لأن السباق يجري على النمط الأمريكي ولو كانت أهدافه معادية لأمريكا،
    فهنا مندوبون دائمون لأي وعي جديد،ولأي نغمة جديدة،ولأي طفرةجديدة.
    من الولاَّعة المتدلية من صدر فتاة الجينز دليلاًعلى الافراط في اليسارية،
    الى حجاب يغطي الوجه واليدين دليلا على الأصالة،الى تلَّقُف كل إشارة
    تضع كارل ماركس في فهرست الاستشراق،دليلا على هبوب رياح الشرق.
    هنا محطة تحويل كونية لكل خروج عن السياق،وتعميمه الى برنامج لشعب
    مشغول بتأمين خبزه وماءه وبدفن قتلاه.


    أمشي في شارع لا يمشي فيه أحد،
    أتذكر أني مشيت من قبل في شارع لم يمشِ فيه أحد
    وأتذكر أن أحدا لم يكن معي.قال لي:
    دَعْكَ من هذا الحوار،وتعال معي
    الى أين؟
    لترى هذا الرجل
    ماذا يفعل هذا الرجل؟
    يذهب الى بيته.
    ولكنه يمشي الى الأمام ويعود الى الوراء
    تلك طريقته في المشي
    إنه لايمشي،إنه يتأرجح.إنه يرقص.
    راقِبْه جيدا.عُدَّ خطواته..
    واحدة،اثنان،أربع،سبع،تسع الى الأمام....
    واحد،اثنتان،ثلاث،سبع،ثمان الى الوراء..
    ماذا يعني ذلك؟
    إنه يمشي في هذه الطريقة وبها وحدها يعرف الطريق الى البيت:
    عشر الى الأمام وتسع الى الوراء،أي أنه يتقدم خطوة.
    وإذا سرح ذهنه وأخطأ في العد؟
    عندها لا يصل الى بيته
    هل تعني شيئاً؟
    لاأعني شيئاً
    ...................................

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    وداعا سيدي
    الى أين؟
    الى الجنون
    أي جنون؟
    أي جنون ...فقد صرت كلاماً.
    ......................
    مسَّني ما مسَّني من حماسة،وواصل الفضاء المحتّل وجبل صنوبر المُحتل
    قصف الهواجس الاولى وسيرة خروج آدم من الجنة،المتعدد في سير خروج لا تنتهي،
    لم يعد لي وطن،ولم يعد لي جسد
    وواصل القصف أناشيد المدائح وحوارات الموتى
    المتحركة في دم كالضوء يحرق الأسئلة الباردة،
    عمَّ أبحث؟
    عن امتلاء بالبارود،عن تخمة لغضب النفس.
    تدخل الصواريخ في مسام جلدي وتخرج سالمة.ما أقواها!!
    ولا أحس بالجحيم الذي يوزعه الهواء
    طالما صرت أتنفس هذا الجحيم وأتصبب جهنم.
    وأريد أن أنشد،نعم ،أريد أن أنشد لهذا النهار المحروق،
    أريد أن أنشد.
    أريد أن أجد لغة تحول اللغة الى حديد للروح،
    الى لغة مضادة لهذه الطائرات..
    الحشرات الفضية اللامعة..أريد أن أنشد.
    أريد لغة
    تسندني وأسندها،
    وتشهدني وأشهدها
    على ما فينا من قوة الغلبة على هذه العزلة الكونية.
    وأمشي لأراني ماشيا،
    ثابت الخطوة،حراً حتى من نفسي في منتصف الشارع تماما
    تنبح عليًّ الوحوش الطائرة.تبصق نارها ولاأبالي،
    لاأسمع إلا وقع خطاي على الاسفلت المحفور.
    ولا ارى أحداً
    عمَّ أبحث؟لا شيئ،
    لعل عناد التحدي الذي يخفي خوف الوحدة،
    أو الخشية من الموت بين الأنقاض هوما يُمسك بخطاي
    ويضرب الشوارع النائمة..............

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    وعلى الحدود تُعلن الحرب على الحدود
    لذلك كان علينا أن نرى من لبنان غير ما رأيناه من صناعة الأمل،
    وجه البطولة الساطع المتفجر من المدافعين عن بأسهم العظيم أمام
    أمل الصَدَفة المنغلقة ومن هجوم بحر الصحراء على جزيرة الروح الصغيرة.
    أسماء الأمكنة تضيق وتنكمش.
    من الوطن الممتد من المحيط الى الخليج الى ما هو أضيق:
    شرم الشيخ،جبل الشيخ،الضفة الغربية لنهر الأردن،مدرسة البنات في نابلس،
    حارة السجعية في غزة،غاليري سمعان،شارع أسعد سعد في بيروت،
    فندق طابا في سيناء،مخيم شاتيلا،مستديرة المطار،
    الى متراس أخير تكون بعده الصحراء أو البحر.

    لتتقدس أيديكم أيها القابضون على الحجر الأخير وعلى الجمر الأخير..
    لتتقدس أيديكم الرافعة وحدها جبالاً من أنقاض الفكر اليتيمة،
    وليتحول ظلكم المحروق الى رماد عنقاء يُجدِّدكم لتبنوا منه ومنكم مغارة لطفل يُولَد.
    ولتُنبِت أسماءكم حبقا وريحانا على سهل يمتد من خطاكم،
    سهل لتهتدي حبَّة القمح الى ترابها المسروق،
    أيها المشرقون فينا أقمارا
    يعجنها دم سخي ينادي حرَّاس القلعة الهاربين الى صفوف الأعداء،
    فما يجيب سوى الصدى الساخر:
    وحدكم!!
    من آثار خطاكم الخطى التي لا تخطو إلا تحت أو فوق،
    سنلُّم الجزر المتطايرة المتنافرة
    كما يلُّم الشاعر البرق من حوافر خيل على صوًّان.
    ومن خيمة هي مايسيل علينا من ريش الصقور المعدنية
    سندُّل القبائل على حدود أسمائها.

    وحدكم...فاحموا حد النشيد،كما تحمون مما يثلم
    القلب في هذه البرية الضيقة،الضيقة كمدى لا يطل من النافذة..
    وحدكم...
    البحر من ورائكم ومن أمامكم وعن يمينكم وعن شمالكم
    ولا يابسة إلا هذه اليد التي تمسك بحجر هو الوطن.
    وحدكم...
    فارفعوا مائة مدينة أخرى على هذا الزناد لتخرج المدن القديمة
    من اسطبلاتها ومن سلطة الجارد النابت في خيام الفراء الصحراوي..
    لم يبق لنا من موت إلا موت الموت....
    وحدكم،
    تحمون سلالة هذا الساحل من إختلاط المعاني،
    فلا يكون التاريخ سلس المِراث،
    ولا يكون المكان إرثاً يورث.
    ولتتقدس أيديكم أيها القابضون على الحجر الأخير والجمر الأخير.

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    الشارع.الساعة السابعة صباحا,الأفق بيضة ضخمة من فولاذ.
    لِمَن اقدِّم صمتي البريئ.صار الشارع أعرض.
    أمشي على مهل وأمشي على مهل وأمشي على مهل
    كي لا تخطئني طائرة.يفتح العدم أشداقه ولا يبتلعني.
    أسير بلا هدف كأنني أتعرَّف على هذه الشوارع للمرة الاولى،
    وكأنني أسير عليها للمرة الأخيرة.
    وداع من طرف واحد،أنا المشيِّع والمشَّيع،لو قطة...لو أجد قطة،
    لا حزن،لافرح،لا بداية،لا نهاية،لا غضب،لارضا،لا ذكرى،
    لا حلم،لا سلام،لاماض،لا غد،لا صوت،لا صمت،لا حرب،لا حياة،لا موت،
    لا...لا،تزوج الموج طحلب الصخرة على شاطئ بعيد
    وخرجت للتو من هذا الزواج الذي دام مليون سنة،
    خرجت للتو فلم أعرف أين أنا.لم أعرف مَن أنا..
    لم أعرف ما اسمي،ما اسم هذا المكان.
    لم أعرف أن في وسعي أن أمتشق ضلعاً من ضلوعي لأجد فيه حواراً لهذا السكون المطلق.
    ما اسمي،مَن سمًّاني،مَن سيسميني:آدم!!

    أسير وسط الشارع تماماً،ولايهمني أين أعرف الى أين انا سائر،
    وكأنني في سرنمة.لا أخرج من شيئ ولاأدخل في شيئ.
    ولكن هدير هواجسي المتلاطمة يعلو على هدير طائرات لاأكترث بها.
    لم نفهم لبنان.لم نفهمه أبدا،ولن نفهم لبنان،ولن نفهمه أبداً.
    لم نر من لبنان غير صورتنا على وجه الحجر المصقول ،
    مُخيَّلة تُعيد خلق العالم على شاكلتها،
    لا لأنها واهمة بل لأنها في حاجة الى أن تضع للخيال موطء قدم.
    شيئ من صناعة الفيديو:نكتب القصة والسيناريو والحوار
    ونوزِّع الأدوار دون أن ننتبه الى أننا الموزَّعون في أدوار.
    وحين ننظر الى وجوهنا ودمنا على الشاشة،نُصفِّق للصورة
    ناسن أنها من صناعتنا وما إن يتحول الانتاج الى اعادة إنتاج
    حتى يصدَّق الآخر هو الذي يشير إلينا.

    هل كان بمقدورنا أن نرى بشكل آخر غير ما يُسهِّل علينا تأليب الواقع على ماديته؟
    بنيتنا التحتية هي المعنويات،
    ماركس واقفا على قدميه مُعيداً هيغل للوقوف على قدميه بأدوات ميكافيللي
    الذي أسلم على باب خيمة من خيام صلاح الدين،
    ألأنَّ لبنان هو هكذا يستعصي على الدراسةوالإدراك؟
    أم لأننا لا نملك من أدوات معرفة لبنان غير الطريقة في التوفيق؟
    لا أتورَّط بالإجابة بقدر ما أزجُّ نفسي في حيرة:لا أحد يفهم لبنان،
    لاأصحابه المجازيون ولا صُنَّاعه،لا مدمروه ولا بُناته،لا حلفاؤه ولا أصدقاؤه،
    لا الداخلون ولا الخارجون،
    ألأنَّ الواقع المُفكَّك لا يُدرَك،أم لأن الوعي المفكك لا يُدرِك؟
    ولاأريد جواباً صحيحا بقدر ما اريد سؤالاً صحيحا،
    لم نرى من لبنان غير اللغة التي تُشيع فينا غريزة الوجود،
    وعلاقة قربى رفعها الى مستوى الخطاب القومي ذلك المصري الكبير
    عبد الناصر الذي خاطب في سكان هذه القارة المتحولة الى فيسفاء حاسَّة الغياب المرهفة،
    وسمَّى من النهر ضفافا تُخفي ما في النهر من وَحْل،وطوائف،
    ونفايات الصليبيين التي كانت تُجدِّد حياتها في هدوء الظلام،خلف
    دوي الخطاب....الى أن انكسر الخطاب فتقدمت بخطابها شبه المشترك.

    فيديو....
    أن نرى ما تريحنا رؤيته،في لحظة يتحول فيها شريط حياتنا إلى هذه الرؤية،
    المتحدرة من الخطاب الكبير،في محاولة لتحويلها الى وعد تراجع عن الوعي
    فصار ممثلوا الأغلبية أقلية محاصرة

    فيديو...
    لأن الزمن ليس زمن أنبياء :تتحول فيه العزلة إلى بوصلة صواب،
    والأقلية المترسبة من مشروع الأكثرية إلى هداية.....

    فيديو.....
    لأن حزيران المصنوع ليكون الفكرة العربية لا تحيله الأنظمة المشاركة في صناعته،
    الى انتقام الشارع ليكون بداية البديل،بل لامتصاص ما ينبغي امتصاصه من غضب لا يُرَّد،
    تُجري أثناءه الأنظمة عملية تثبيت انعطافها نحو الفكرة الاقليمية،والفكرة الطائفية.

    وفيديو...
    لأن سقوط المركز بالتوقيع على معاهدة تضمن نهاية الحروب،
    يأذن بهجوم الأطراف على مركز الموضوع،
    ونقله من موضوع دعوة الى موضوع انشقاق وفتنة.

    وفيديو...
    لأن اقتسام الساحل والجبل بين العرب والافرنج،في هذه الشروط المعاصرة
    لا يرمي الى ضمان احتفاظ العرب بما تبًّقى لهم من قلاع ومدى،لمواصلة الصراع،
    بل يرمي الى منح العدو هدنة توفر له امكانية تأسيس نماذج كفيلة بانتقاله
    من استثناء الى قاعدة .

    فيديو...
    لأن هذا الضلع المكسور مطلوب للمحاكمة بتهمة الاعتداء على راحة العروش
    بترويج كلمات ممنوعة التداول في الأوساط العربية:
    امرأة،معارضة،أحزاب،كتاب،برلمان،حرية،ديمقراطية،شيوع ية،علمانية..

    فيديو..
    لأن فلسطين تتطور من وطن الى شعار ليس للتطبيق،
    بل للتعليق على الأحداث ولتزويق خطاب الانقلاب،
    وحلِّ الأحزاب،ومنع زراعة القمح،
    واستبدال الكدح بالربح السريع،
    والى تطوير صناعة الانقلاب الثقيلة منها والخفيفة،
    الى أن يُعقَد القِران على آخر حفيدات الخليفة..

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    اقول:لا أعرف
    تقول:إذن ماذا تعرف؟
    أقول:أعرف أن للماء طعما ولونا ورائحة
    تقول:لماذا لا تذهبون الى بلادكم وتنتهي المشكلة؟
    اقول:هكذا ببساطة نعودالى بلادنا وتنتهي المشكلة؟
    تقول:نعم/أقول:ألا تعرفين أنهم لايسمحون لنا بالذهاب الى بلادنا؟
    تقول :إذن حاربوهم/أقول:ها نحن نحاربهم،ألسنا في حالة حرب؟
    تقول:أنتم تحاربون لتبقوا هنا ولا تحاربون لتعودوا.
    أقول:كي نعود الى هناك،لابد أن من نكون في مكان ما،فالعائد ...إن عاد...لا يعود من عدم.
    تقول:لماذا لا تقيمون في البلاد العربية وتحاربوهم.
    أقول:قالوا لنا ما تقولينه الآن.طردونا،
    وها نحن نقاتل هنا مع اللبنانيين دفاعاً عن بيروت،ودفاعا عن وجودنا.
    تقول:حربكم بلا هدف ولا توصِل الى نتيجة.
    أقول:قد لاتوصل الى نتيجة ولكن هدفها هو الدفاع عن النفس.
    تقول:عليكم أن تخرجوا من هنا.
    اقول:لقد وافقنا على الخروج.سنخرج.وهاهم يمنعونا من
    الخروج ولكن ألا يعنيك الى أين سنخرج؟
    تقول:لا يعنيني/وارتفع من الراديو صوت فيروز:بحبك يا لبنان.
    ارتفع من اذاعتين متحاربتين،
    قلت:ألا تحبين هذه الأغنية/قالت:أحبها:وأنت؟
    قلت أحبها كثيرا،وتوجعني.
    قالت:بأي حق تحبها؟ألا ترى الى أي حد تماديتم.
    قلت:إنها أغنية جميلة..ولبنان جميلة.وهذا كل مافي الأمر.
    قالت:عليك أن تحب القدس،
    قلت:احب القدس،والاسرائيليون يحبون القدس ويغنون لها،
    وأنت تحبين القدس وفيروز تغني للقدس وريكاردوس أحب القدس.
    قالت:لا...أنا لاأحب القدس.

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    أهبط على الدرج الحجري الطويل وسط الزجاج المهشّم .
    لاأعرف إن كانت الطوابق السفلى قد أصيبت.
    وأتساءل ماذا أفعل لو إنقضّت عليَّ جثة؟
    كيف سأحملها؟ولمَن أنقلها؟
    ماذا أفعل لو لم أجد أحداً أتحدث إليه،
    لمَن أنقل كلامي ومَن يشاطرني صمتي؟
    سأصفِّر لحناً..مطلع أغنية من أغاني بيروت المتفجرة من هذه الحرب.
    لم تكن بيروت للغناء،ولم يستخدم الشعر اللبناني اسم بيروت
    القابل للاستعمال في جميع بحور الشعر.
    اسم موسيقى ينساب بسلاسة في قصيدة النثروفي القصيدة...
    وماذا أفعل لو لم أجد قطة أداعبها؟
    ماذا سأفعل لو لم أجد ما أفعل؟
    على الطابق الرابع باب مفتوح.صباح الخير ياأستاذي_
    هكذا كنت أخاطبه منذ عشر سنين.في الثمانين من العمر،
    وسيم هادئ،كأنه قلب يمشي على قدمين.
    رحل من منزله الكائن على خطوط التماس بعدما إنهارت عليه جدرانه الثلاثة،
    وأقام في شقتي ستة شهور عندما كنت مختفياً في أوروبا،
    ثم أقام في شقة ابنته.
    كنت أزوره يومياً وأحمل عنه عبئ الحرب.
    وأحمل له الكعكةوالجريدة ،
    كان شاعراً مجدداً،ولعله أول مَن كتب قصيدة النثر
    ثم توقف عن كتابة الشعر ليتفرغ كلية لمجلته الادبية الشهرية.
    كان هو هيئة التحرير والادارة والموزِّع والمصحح...
    لم تعادل شكواه من وحشية القصف غير شكواه من الماء وصاحب البناية.

    كان يأنس إليَّ والى أحفاده ،كان يتقبَّل زوجته ذات الشخصية الطاغية
    بابتسامة اعتذار عن ذنب لم يرتكبه .وحين كان يصرخ من الألم العصيِّ
    الذي يسببه إلحاح الطائرات المغيرة:كفى،ماذا تريدون منَّا.
    نحن نعرف أنكم اقوى منَّا،ونعرف أنكم تمتلكون طائرات أحدث،
    وأسلحة أشد فتكاً.ولكن ماذا تريدون منا...كفىّ ....
    كانت زوجته تزجره:دعهم....وشأنهم عايزين يضربوا الفلسطينيين.
    وكنت أمازحه لأقطع تيار الحرج المكهرب حقاً،لماذا تعرقل عمل الطيارين؟
    فيضحك،وهي لاتضحك.كانت في داخلها التربوي المعادي لما هو خارج طائفتها
    تحتفل بالخدمة المجانية التي يقدمها الاسرائيليون لبطل أحلامها الوحيد:بشير الجميَّل،
    كانت تعتقد أن هذه الحرب مجرد تطوُّع اسرائيلي لتنظيف لبنان من الغرباء والمسلمين،
    وحين ستنتهي بوصول بطل أحلامها إلى رئاسة الجمهورية،
    وبخروج الغرباء من لبنان،سيعود الاسرائيليون من حيث جاؤوا دون أن يحصلوا على أي أجر.
    كان في وسعك أن تجادلها في سيرة السيد المسيح والسيدة مريم العذراء
    ورسائل بولس دون أن تنفعل
    أما البشير،فتحيط اسمه بحزام التابوت المقدس.ياسيدة لبنان احفظيه لنا!!
    ومع ذلك لم أكنُّ لها العداء بل الاحساس بالشفقة على ما قطَعَته من اشواط الوهم ورفض الآخر.
    ولم أحمل لها الضغينة،بل حملت لها ما أجده لدى الباعة ومن خبزوعنب.
    فأمام مثل هذا الانغلاق الصلب والتشكُّل النهائي تتوقف محاولات الاقناع.
    وعبثاًحاول الاستاذ ذوالماضي العلماني أن يُقْنِعها أنَّ الاسرائيليين لا يحبون
    لبنان ولا يدافعون عن لبنان،وأن صاروخاً واحداً من طائراتهم سيحولنا نحن
    الموارنة والمسلمين الى كَفْتة،وهي،هي المحصنة بقناعاتها النهائية،تحب المناقشة العقيمة
    ويسألني الاستاذ رأيي ليساعدني عليها،فأتجنب الاستفزاز وما قد تغدقه عليَّ من باطن،
    قائلاً:ليست تلك مشكلتي،فتُحرِّك هي الماء الراكد بقولها:إذن ماهي مشكلتك؟
    أناور قائلاً:مشكلتي هي أن أعرف ما مشكلتي.
    وفي المناسبة،هل أفرج صاحب البناية عن الماء؟
    تقول:لا تتهرب مما نحن فيه،أنت تعرف أن لامشكلة بين الموارنة واليهود
    أقول:لاأعرف ذلك.
    تقول أنت تعرف أننا حلفاء.

    اترك تعليق:


  • ربيع عقب الباب
    رد
    لا اريد أن أموت مشوَّهاً بين الأنقاض،
    أتمنى أن أُقصَف على حين غفلة..في الشارع
    أتمنى أن أحترق تماماً...أن أتفحَّم،
    فلا يعثر دود الرواية إياه على وظيفته الخالدة فيَّ ...
    إذ ليس من عادة الدود أن يأكل الفحم.
    وهكذا،سأقول لنفسي إني أبحث عن جريدة..لأبرِّر
    سيري في شارع لا قطة فيه ولا كلب.
    لم آبه بما يحدث خارج الزجاج.قذائف.صواريخ.بوارج.طائرات..
    تهبُّ عليَّ كما تهبُّ الرياح....
    تنزل عليّ كما يهطل المطر ....
    تتحرك كما يتحرك الزلزال.
    لاتستطيع الإرادة البشرية أن تغعل حيالها شيئاً كأنه قدر لا يُرد.
    كلُّ ما تمخضَّ عنه الخيال البشري من إبداعات الشر الخارقة،
    وما بلَغته التكنولوجيا من تقدم،يجري امتحان فاعليتها في أجسادنا اليوم.
    أيكون هذا اليوم أطول يوم في التاريخ؟
    لاأحد يغسل الموتى،فليغسل الميت نفسه بنفسه،
    أعني بدم فائض عن الماء.
    أجمع ثروتي المائية،واستخدم كل قطرةمنها بحرص فائق.لكل قطرةدور.
    أكاد أعدُّ قطرات الماء:خمسمائة قطرة لغسل الشعر...
    ألفان للجسد...مائة للفم....مائة للحلاقة...عشرون للأذنين..
    خمسون لكل إبط...و....و....ولكل قطرة قطعة من الجسد.
    ما الماء؟من قال إن الماء لالون له ولا طعم ولا رائحة؟ماالماء؟..
    كيمياوياً:يد أ.ياء.وال.اثنان.ألف .أهذا هو كل شيئ؟
    ولكن ماهذه النشوة التي تفتح الجلد لتوصلنا إلى عيد هنالك..
    في أرجاء الجسدوضواحيه فيقترب من طباع الفراش.
    الماء فرح الحواس وما يحيط بها من هواء.الماء هو الهواء
    المقَّطر المحسوس المغموس بالضوء.

    ولهذا حضَّ الأنبياء شعوبهم على حب الماء"وجعلنا من الماء كل شيئ حي"
    أتذكر رسالة ابن فضلان فأتقَّزز من ماء في وعاء كان يفسد جيشاً بأكمله.
    لقد قطع عنَّا ممثلوا نفايات الصليبيين الماء،بينما كان صلاح الدين الأيوبي
    يرسل الثلج والفواكه إلى أعدائه"لعل قلوبهم ترق"كما كان يقول.
    وأضحك فجأة من أغنية تقول"المية تروي العطشان"وأتساءل:
    كبف عرف المغّني هذا الاكتشاف المبهر؟
    وفي تل الزعتر كان القتلة يصطادون الفلسطينيات على نبع الماء،
    على ماسورة الماء المكسورة،كما يصطاد الصيادون الغزلان العطشى.
    الماء القاتل.الماء المخلوط بدم العطشى الذين غامروا بحياتهم من أجل كوب ماء.
    الماء الذي أشعل حروب البدو في الزمن القديم.
    الماء الصالح لتحسين شروط التفاوض لدى مَن لم يلمس الماء انسانيتهم اليابسة.
    الماء الذي حرَّك ملوك العرب وحملَّهم مشقة الاتصال الهاتفي مع الرئيس الأمريكي
    لأجراء مقايضة رابحة:خُذْ الدم وهات الماء،خذ النفط وهات الماء.خذنا وهات الماء!!!
    ..وصوت الماء ضجيج عرس،أعلى أعلى من أصوات الطائرات.
    صوت الماء مرايا لعروق الارض الحية.
    صوت الماء هو الحرية.
    صوت الماء هو الانسانية.

    وما أن يُعلن البيت البيض في واشنطن عن عودة الماء الى بيروت الغربية حتى
    يهب المحاصرون الى حنفياتهم إلانحن...نحن سكان هذه البناية العالية_
    العالية الى اعلى نداء العطش.فقد حاصرنا صاحبها قبل حصار بيروت بسنين،
    منذ انحلَّت السلطة فجُنَّ هو بسلطته:السلطة على الماء،
    ما إن يتشاجرمع أحد المسأجرين أو مع زوجته،أو مع حسابه في البنك،
    حتى يهب الى قطع الماء عنا جميعاً،
    لذلك ربَّى فينا الصبر على الماء ربى فينا مدائح الماء.
    وعلَّمنا ان نفرح بالماء حين يتدفق ساعة كما لم تفرح به قبائل داحس،
    وحوّلَنا الى حراس انابيب ،نتجسس منذ الفجر على صوت الماء المرتقب.
    وحين نسمع غرغرة الماء نعلن العيد ونجمع ما تهبنا رحمته من الاواني
    والقناني والصحون والكؤوس وفي جيوب المعاطف الجلدية،
    فالماء في هذه البناية كنز نُجللِّه بالطقوس،ونتحدث عن سيرته في سهراتنا
    لقد وحَّدنا الماء والحديث هنه وجعلنا عائلة واحدة.
    ولكن صاحب البناية يغار من شارون وينافسه في السادية.
    فحين تبتهج بيروت الغربية بالإفراج عن الماء .....
    نكتفي بدور التضامن،لأن هذه البهجة لا تشملنا ولأنَّ الماء لا يصل الينا.
    نحن آخر الأسرى يا أبا ربيع.
    اغفر لنا ذنوباُ لم نرتكبها ياأبا ربيع.
    الدنيا حرب يا أبا ربيع.
    والعفو عند المقدرةيا أبا ربيع،
    وما مِن سميع وما من شفيع.
    إلى أن إضررت الى الاستعانة باللجان الشعبية المسلحة التي أفرجت عن الماء بقوة.
    فنسينا الحرب ونسينا الحصار من فرط ما فرحنا بالماء...

    اترك تعليق:

يعمل...
X