في الحقل الكبير راح يمشي بخطى ثقيلة، يتمعن في الأرض، ينحني نحو الأعشاب يتحسسها، كأنه يبحث عن شيء ما، وإذا بها تقف خلفه بلباسها القروي الطويل، وسلتها الفارغة إلا من بعض حبات اللوز، وعنقود أو إثنين من العنب
-عما تبحث ؟
هي الغريبة الوحيدة التي ما كان ليتجاهل صوتها، وأسئلتها :
-أبحث عن عشبة النسيان ..
-إذا أخبرني عندما تجدها، لأصنعها منها حساء نشربه معا .. ألقت كلامها المفاجئ في صدره ثم أدارت ظهرها، تزرع السلة كسكين في خاصرتها، تلبي نداء فراشة دعتها للقفز معها بين الزهور ..
إنها فتاة غريبة، رغم كل ما تحمله من أسى في عينيها إلا أن الإبتسامة لا تفارق ثغرها، كما أنها مفعمة بالحيوية والنشاط تمشي وكأنها طفلة يثير إعجابها أي شيء تافه،
كلامها قاد قدميّ وليد نحوها، فوجد نفسه أمامها يطرح عليها سؤالا فضوليا وهو الذي لم يكن فضوليا يوما ..
-ماذا تريدين أن تنسي ..؟
-لا أحد كنت أمازحك فقط ..
لم يقتنع وليد بإجابتها أبدا فهو يعرف هذا الكذب حق المعرفة..
-لقد قلت ماذا تريدين أن تنسي وليس من تريدين أن تنسي؟
ثم سألها:
-لماذا تترددين يوميا إلى هذا الحقل دون غيره من الحقول؟
تسمرت في مكانها ثم أجابت على السؤال كأنها طرحته على نفسها:
-لقد عبر هذا الحقل ذات يوم وقال انتظريني ...!
ضحك وليد نفس الضحكات التي كان يقهر نفسه بها من حين إلى آخر : ههههه لن يعود ..
أغضبها كلامه، قطبت جبينها وهمّت لشتمه ولكنها سرعان ما أحنت رأسها، فسلتها خالية من كل الأعذار التي قد تبرر فيها ..
تابع وليد:
-تعرفين بينك وبين قرارة نفسه أنه لن يعود، ولكن شرفة الانتظار تقيدك، وأنت اعتدتِ عليها، بل لا مفر سوى القفز منها .. سوى الانتحار ..
تخالينه على ظهر تلك الفراشة لذلك تطاردينها أليس كذلك؟ وما إن تلقطيه حتى يفر من بين أصابعك أليس كذلك؟ شيدي له قبرا كما فعلت أنا .. هكذا فقط تضمنين عدم فراره ..
ردت بلهجة قاسية: لقد شيدت له قبرا في قلبي ثم أدارت وجهها، فإذا بوليد يمد يده ويسحبها نحوه بقوة، يدني وجهه من وجهها حتى يكاد يلتصق أنفه بإنفها ..
-كاذبة .. هي كلمة ألقاها من شفتيه ببطئ شديد، بل أخرجها حرفا حرفا ..
-لااا
-إذا لم تريدين حساء النسيان ؟
سحبت معصمها من قبضته بعنف ثم انصرفت غاضبة يلاحقها صوته كسحابة دموع أطلقها صوب عينيها "عندما أجد العشبة سأخبرك ....."
.
يتبع
اترك تعليق: